القوم، ومقاماتهم بكلام نفيس عال، ويتكلم على خواطر الناس ويكاشفهم، وكان يبيع الجميز وهو شاب عند الشيخ العارف بالله تعالى سيدي إبراهيم المتبولي في بركة الحاج خارج مصر، ثم أذن له الشيخ أن يفتح دكان زيات، فمكث فيها نحو أربعين سنة، ثم ترك ذلك، واشتغل بضفر الخوص إلى أن مات، وكان لا يمل من كسب أحد إلا أن علم ورعه وخوفه من الله تعالى، وكان يرد جميع ما يعطيه له القضاة والأمراء وأعوانهم، ثم قبل ذلك أواخر عمره، وكان يضعه عنده، ويفرقه على من مر بدكانه من العميان والشيوخ والعجائز الذين يسألون الناس، وكان يقول: ينبغي للفقير أن يكون كالبتاء يعرف موضع كل طوبة يضعها فيه، ورمدت عيناه رمداً شديداً، فدفع إليه شخص من معتقديه ثلاثة أنصاف وقال له: انفقها اليوم وأرح عينيك، فردها، وقال له: يا أخي أنا أضفر الخوص في هذا الحال ولا يعجبني أن آكل من كسبي، فكيف آكل من كسبك.! فقال: يا سيدي خاطري طيب بذلك. فقال: أنا خاطري ما هو طيب، وكان إذا وضع الحزمة من الخوص التي يدور عليها اليد يضفر ثلاثين قفة، فإن شعر به أحد قال له: أكتم علي الكل فعل الله تعالى، وكان له طب غريب يداوي به ذوي العاهات والأمراض المزمنة التي عجز عنها الأطباء، وكان يطوف على المساجد يوم الخميس والجمعة يكنسها وينظف أخليتها، ويحمل الكناسة إلى المزابل، وكان ينظف المقياس كل سنة صباح نزول النقطة، فيكشط سلمه من الطين، ثم ينزل يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يدعو ويبكي ويتضرع إلى الله تعالى في طلوع النيل يفعل ذلك كل سنة. قال الشعراوي: وكان يرسل وراءنا ذلك اليوم، ويقول: تعالوا زوروا محل نزول الرحمة لأهل مصر، ويأمرنا أن لا نخرج في الروضة ريحاً ولا نبول، ويقول: من كان له حاجة، فليفعل ذلك في ساحل مصر، ولا تطلبوا الروضة إلا على طهارة، وكان يأخذ معه ذلك النهار الأموال الجزيلة من ذهب وفضة وفلوس مخلوطة، فيفرق على كل من رآه من الفقراء حتى يرجع، وقد استوفى الشيخ عبد الوهاب أحواله في طبقاته، وأورد من كلامه في طريق الله تعالى جملة صالحة في الطبقات، وفي كتابيه المنن والأخلاق والجواهر والدرر وغيرها، وكان كلامه عالياً، وكان يذعن له ولكلامه جماعة من أجلاء علماء مصر كالشيخ ناصر الدين اللقاني، والشيخ شهاب الدين ابن السبكي، والشيخ شهاب الدين الرملي، وقاضي القضاة شهاب الدين الفتوحي، وكان يعجبه كلامه كثيراً. توفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة تسع - بتقديم التاء - وثلاثين وتسعمائة، ودفن