المشهورين بالعلم والدين والرئاسة. كان أصله من ولاية قسطموني، ثم دخل القسطنطينية مع والده، ونشأ في طلب العلم، وقرأ على علماء ذلك العصر، ووصل إلى خدمة المولى الساميوني، ثم صار مدرساً بمدرسة الوزير محمود باشا بالقسطنطينية، ثم بسلطانية بروسا، ثم بإحدى الثماني، ثم صار قاضياً بالقسطنطينية، ثم عزل عن قضائها وأعيد إلى إحدى الثماني، ثم صار مفتياً مدة طويلة، ويحكى أنه نزلت به إضاقة الحاجة إلى طلب المنصب، فاجتهد في طلبه، فلم يحصل، وأعياه حتى هم أن يترك الطلب، فرأى في منامه قائلاً يقول له:
ثق بالله مسبب الأسبابا ... الرزق إذا أتاك دق البابا
فلما أصبح من ليلته إذا بطارق يطرق بابه، فأذن له، فلما دخل بشره بالمنصب. قال في الشقائق كان فائقاً على أقرانه في تدريسه، وفي قضائه، مرضي السيرة محمود الطريقة، وكان في إفتائه مقبول الجواب، مهتدياً إلى الصواب، وكان طاهر اللسان لا يذكر أحداً إلا بخير، وكان صحيح العقيدة، مراعياً للشريعة، محافظاً على الأدب، وكان من جملة الذين صرفوا جميع أوقاتهم في الاشتغال بالعلم الشريف، وقد ملك كتباً كثيرة، واطلع على عجائب منها، وكان ينظر فيها، ويحفظ فوائدها، وكان قوي الحفظ جداً. حفظ من المناقب والتواريخ شيئاً كثيراً، وله رسائل وتعليقات، وكتب حواشي مفيدة على تفسير البيضاوي، وهي متداولة بين العلماء، وله شرح مختصر مفيد للهداية، وبنى داراً للفقراء بقرب داره بمدينة قسطنطينية. انتهى.
قلت: وكان السيد عبد الرحيم العباسي خليلاً لسعدي جلبي لكل منهما بالآخر مزيد اختصاص، وللسيد عبد الرحيم فيه مدائح نفيسة في عدة قصائد، ومقاطيع، ولما كان شيخ الإسلام والدي بالقسطنطينية في سنة سبع وثلاثين وتسعمائة اجتمع بالمذكور كثيراً، وكان إذ ذاك قاضي القسطنطينية، وذكره في المطالع البحرية فقال قاضي قضاة المسلمين، وأولى ولاة الموحدين، وينبوع العلم واليقين، العادل العمل في أحكامه، والحركة في إقدامه، والمراقب لله في فعله وكلامه، إنسان عين الزمان، وإنسان عين البيان، إلى أن قال: ما قرن به فاضل بالروم إلا رجحه، ولا ألقي إليه مقفل من العلم إلا كشفه وأوضحه، له صادقات عزائم، لا تأخذه في الله لومة لائم، إلى عفة ونزاهة، وإبانة وهمة علية وصيانة، في أوصاف آخر ومما قاله الشيخ الوالد فيه وأنشدنا إياه شيخنا القاضي محب الدين الحنفي، وأخبرنا أنه وجده مكتوباً في جدار مجلس المولى سعدي:
أوصاف سعدي مثل شمس الضحى ... ظاهرة في القرب والبعد