الإرادات " لم يكمله وكان رحمه الله تعالى حسن السمت ساكناً ساكتاً عما لا يعنيه خاشعاً، سريع الدمعة، لطيف الطباع، حسن المعاشرة وله مع ذلك شهامة، وكان طويل القامة، أبيض اللون، عليه عمامة كبيرة على عادة علماء ذلك العصر، ورأيته بعد موت والدي مرة، وأنا ابن ثماني سنوات داخل الجامع الأموي فتواجهت معه بين البئر، والحنفية فقال له بعض من معه: يا سيدي هذا ولد المرحوم شيخ الإسلام الشيخ بدر الدين الغزي فنظر إلي، وسألني عن اسمي فذكرت له، وسألني عما أقرأ فذكرت له فدعا لي، وترحم على والدي، وحدثني ولده الشيخ يحيى خطيب الجامع الأموي الآن نفع الله تعالى به أن والده كان له نخوة، وشهامة في أول أمره فدخل على شيخه الشيخ أبي الفتح السبستري، فقال له يا شيخ: أريد أن تذهب إلى السوق تشتري لي بهذه القطعة الفضية بطيختين، وتحملها بنفسك من السوق إلى خلوتي، وكان الشيخ أبو الفتح ساكناً بالخانقاه السميصاتية فذهب الشيخ محمد البهنسي، واشترى بطيختين كبيرتين، وأنف من حملهما، وأراد أن ينظر من يحملهما عنه فذكر كلام الشيخ، وخشي أن يكاشفه بما يفعله إذا حملهما لأحد، ولا يرضى بفعله فحملهما إلى منزل الشيخ أبي الفتح، وقد تصبب عرقاً، وانكد لمحل نظر الناس إليه فلما دخل على الشيخ قال له: عسى أن تصغر نفسك الآن قال: فمن حينئذ ذهبت عني الأنفة، والكبر وكان الشيخ البهنسي يجمع ما يتحصل له من الغلال في كل سنة، ويتربص به حتى يبيعه آخر السنة، ومثل ذلك لا يعد احتكاراً إذ الاحتكار شراء الطعام الذي تمس إليه حاجة العامة في زمن الغلاء ليبيعه بأغلى، وكان بعض حساد الشيخ ربما طعنوا عليه ذلك حتى وشي به إلى قاضي القضاة ابن المفتي، في بعض السنين فبعث إلى حاصل الشيخ البهنسي من فتحه، وباع ما فيه، ثم ارتفع السعر بعد ذلك وفات الشيخ منه جملة من المال فانكف البهنسي عن التردد إلى القاضي بسبب ذلك، ووقع بينهما فاتفق أن القاضي حصل له حمى شديدة، ومرض أياماً حتى أعياه المرض، فالتمس من الشيخ عمر الرائي، وكان يرى النبي صلى الله عليه وسلم، في منامه كثيراً أن يسأل من النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه في منامه أن يشفع إلى الله تعالى في شفائه، فرجع إليه الشيخ عمر الرائي وقال له: يا قاضي القضاة سألت لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قل له يلتمس الدعاء من الشيخ محمد البهنسي يحصل له الشفاء، ولم يعلم الشيخ عمر ما كان بينهما فبعث القاضي من تلطف بالشيخ البهنسي، وأتى به إليه فلما اجتمعا تعانقا، وتباكيا، ودعا الشيخ البهنسي له بالشفاء فشفاه الله تعالى بعد ذلك قريباً، وبالجملة فقد كان - رحمه الله تعالى - من أفراد الدهر وأعاجيب العصر، توفي - رحمه الله تعالى - بعد الظهر يوم الأربعاء أو خامس جمادى الآخرة سنة ست، وقرأت بخط منلا أسد سنة سبع ثمانين وتسعمائة، ودفن بمقبرة باب الصغير بعد العصر عند قبر معاوية، ونصر المقدسي