وقلت: ما بعثه الله إلّا لهلاكي، وإذا قطعة من خيل الروم قد بصرت به، فوقع في نفسه أنه يسرع الجري فيسلم وأقتل، فلمّا ضاق الطّلق ما بينه وبين أقربهم منه، عطف عليه كالعقاب، وطعنه ففطره، وتخلّص الرمح منه، ثم حمل على آخر فطعنه، ومال على الثالث فانهزم منه، فرجع إليّ، وقد بهتّ من فعله، ورشاش دم الجرح يتطاير من قناع المغفر لشدّة نفسه، وقال لي: يا فاعل، يا صانع، أتلقي الرّمح ومعك مقاتل الرّيّه؟
انتهى اختصار السفر الثامن والحمد لله رب العالمين يتلوه في اختصار التاسع بعده ومن ترجمة القضاة مؤمل بن رجا بن عكرمة بن رجا العقيلي من إلبيرة*** ومن السّفر التاسع من ترجمة القضاة
مومّل بن رجاء بن عكرمة بن رجاء العقيلي
من إلبيرة.
حاله: كان شيخا مضعوفا يغلب عليه البله، من أهل التّعيّن والحسب والأصالة، عريقا في القضاء، قاض ابن قاض ابن قاض. ولّي قضاء إلبيرة للأمير محمد.
من حكاياته: رفعت إليه امرأة كتاب صداقها، فقال: الصّداق مفسوخ، وأنتما على حرام، فافترقا، فرّق الله بينكما. ثم رمى بالصّداق إلى من حوله، وقال: عجبا لمن يدّعي فقها ولا يعلمه، أو يزعم أنه يوثّق ولا يتقنه، مثل أبي فلان وهو في المجلس يكتب هذا الصّداق، وهو مفسوخ، ما أحقّه أن يغرّم ما فيه. فدار الصّداق على يدي كل من حضر، وكل يقول: ما أرى موضع فسخ، فقال: أنتم أجهل من كاتبه، لكني أعذركم؛ لأن كل واحد منكم يستر على صاحبه خطأه، انظروا وأمنحكم اليوم، فنظروا فلم يجدوا شيئا يوجب فسخا. فدنا منه محمد بن فطيس الفقيه، فقال: أصلح الله القاضي، إن الله منحك من العلم والفهم ما نحن مقرّون بالعجز عنه، فأفدنا هذه الفائدة، فقال: ادن، فدنا منه، فقال: أو ليس في الصداق:
«ولا يمنعها زيارة ذوي محارمها، ولا يمنعهم زيارتها بالمعروف» ؟ ولولا معرفتي بمحبّتك ما أعلمتك. فشكره الشيخ، وأخذ بطرف لحيته يجرّه إليه حتى قبّلها، وكان عظيم اللحية طويلها، شيمة أهل هذه الطّبقة. قال ابن فطيس: أنا المخصوص بالفائدة، ولا أعرّف بها إلّا من تأذن بتعريفه إياها، فتبسّم القاضي معجبا بما رأى،