وسابق أقرانه، ذو المحاسن الجمة، الجليلة الباهرة، والأدوات الرفيعة الزكية، الطاهرة الكاملة، المجمع على تناهي نباهته، وحمد خصاله وفصاحته، من لا يشقّ غباره، ولا تلحق آثاره، معجزة زمانه في صناعة النثر والنظم، أبو عبد الله بن أبي الخصال، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونضّر وجهه. ألفي مقتولا قرب باب داره بالمدينة، وقد سلب ما كان عليه، بعد نهب داره، واستئصال حاله، وذهاب ماله، وذلك يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة من سنة أربعين وخمسمائة. فاحتمل إلى الرّبض الشرقي بحومة الدرب، فغسّل هنالك وكفّن، ودفن بمقبرة ابن عباس عصر يوم الأحد بعده، ونعي إلى الناس وهم مشغولون بما كانوا بسبيله من الفتنة. فكثر التفجّع لفقده، والتأسّف على مصاب مثله، وأجمعوا على أنه كان آخر رجال الأندلس علما وحلما، وفهما ومعرفة، وذكاء وحكمة ويقظة، وجلالة ونباهة، وتفننا في العلوم. وكان له، رحمه الله، اهتمام بها، وتقدم في معرفتها وإتقانها. وكان، رحمه الله، صاحب لغة وتاريخ وحديث، وخبر وسير، ومعرفة برجال الحديث مضطلعا بها، ومعرفة بوقائع العرب وأيام الناس، وبالنثر والنظم. وكان جزل القول، عذب اللفظ، حلو الكلام، عذب الفكاهة، فصيح اللسان، بارع الخطّ حسنه ومتقنه. كان في ذلك كله واحد عصره، ونسيج وحده، يسلّم إليه في ذلك كله، مع جمال منظره، وحسن خلقه، وكرم فعاله، ومشاركته لإخوانه. وكان مع ذلك كله جميل التواضع، حسن المعاشرة لأهل العلم، مسارعا لمهماتهم، نهاضا بتكاليفهم، حافظا لعهدهم، مكرما لنبهائهم، واسع الصدر، حسن المجالسة والمحادثة، كثير المذاكرة، جمّ الإفادة. له تصانيف جليلة نبيهة، ظهر فيها علمه وفهمه، أخذها الناس عنه مع سائر ما كان يحمله ويتقنه، عن أشياخه الذين أخذ عنهم، وسمع منهم، وقرأ عليهم.
وقال غيره: قتل بدرب الفرعوني بقرب رحبة أبان، بداخل مدينة قرطبة، قرب باب عبد الجبّار يوم دخلها النصارى مع أميرهم ملك طليطلة، يوم قيام ابن حمدين، واقتتاله مع يحيى بن علي بن غانية المسّوفي الملثّم المرابطي يوم الأحد لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة عام أربعين وخمسمائة. قتله بربر المصامدة رجّالة أهل دولة اللثام لحسن ملبسه، ولم يعرفوه، وقتلوا معه ابن أخته عبد الله بن عبد العزيز بن مسعود، وكان أنكحه ابنته، فقتلا معا. وكان محمد خيرة الشيوخ، وعبد الله خيرة الأحداث، رحمهما الله تعالى.