حاله: كان ذاكرا للعلوم القديمة، معتنيا بها، عاكفا عليها، متقدّما في علمها على أهل وقته، لم يكن يشاركه أحد في معرفتها، من الرياضيّات والطبيعيّات والإلهيّات، ذاكرا لمذاهب القدماء، ومآخذهم في ذلك، حافظا جدا، ذاكرا لمذاهب المتكلّمين من الأشعريّة وغيرهم، إلّا أنه يؤثر ما غلب عليه من مآخذ خصومهم، وكان نفوذه في فهمه دون نفوذه في حفظه، فكان معتمده على حفظه في إيراده ومناظرته، وكان ذاكرا مع ذلك لأصول الفقه وفروعه، عجبا في ذلك؛ إذا وردت مسألة، أورد ما للناس فيها من المذاهب. وعزم عليه آخر عمره، فقعد بجامع مالقة، يتكلّم على الموطّأ، وما كان من قبل تهيّأ لذلك، إلّا أنه ستر عليه حفظه، وتعظيم أهل بلده له. قال ابن الزّبير: وكانت فيه لوثة، واخشيشان، وكان له أربّ في التّطواف، وخصوصا بأرض النصارى، يتكلم مع الأساقفة في الدّين، فيظهر عليهم، وكانت أموره غريبة، من امتزاج اليقظة بالغفلة، وخلط السّذاجة بالدّعابة. يحكى عنه أنه كانت له شجرة تين بداره بمالقة، فباع ما عليها من أحد أهل السّوق، فلمّا همّ بجمعها، ذهب ليمهّد للتّين بالورق في الوعاء، فمنعه من ذلك، وقال له: إنما اشتريت التين، ولم تدخل الورق في البيع، فتعب ذلك المشتري ما شاء الله، وجلب ورقا من غيرها، حتى انقضى الأمر، وعزم على معاملته في السنة الثانية، فأول ما اشترط الورق، فلمّا فرغ من الغلّة، دعاه فقال له: احمل ورقك، فإنه يؤذيني، فأصابه من المشقة في جمعه من أطراف الغصون ما لم يكن يحستب، ولم تأت السنة الثالثة، إلّا والرجل فقيه، اشترط مقدار الكفاية من الورق، فسامحه ورفق به.
دخل غرناطة وغيرها، وأخباره عجيبة. قال أبو جعفر بن الزّبير: عرض لي بمالقة مسائل، يرجع بعضها إلى الطريقة البيانيّة، والمآخذ الأدبية؛ وضحت ضرورة إلى الأخذ معه فيها، وفي آيات من الكتاب العزيز، فاستدعيته إلى منزلي، وكان فيه تخلّق، وحسن ملاقاة، مع خفّته الطبيعية وتشتّت منازعه، فأجاب، وأخذت معه في ذلك، فألفيته صائما عن ذلك جملة.
وصمته: قال: وكان القاضي الجليل أبو القاسم بن ربيع وأخوه أبو الحسن ينافرانه على الإطلاق، ويحذران منه، وهو كان الظاهر من حاله. قال: واستدعاني في مرض اشتدّ به، قبل خروجي من مالقة على انفراد، فتنصّل لي مما كان يذنّ «١» به، وأكثر البكاء، حتى رثيت له.