وهو آخر «١» الفضلاء، وله أتباع كثيرة من الفقراء، ومن عامّة الناس، وله موضوعات كثيرة، موجودة بأيدي الناس «٢» ، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجد «٣» . وله تسميات مخصوصات «٤» في كتبه، هي نوع من الرّموز. وله تسميات ظاهرة كالأسامي المعهودة، وله شعر في التحقيق، وفي مراقي أهل الطريق، وكتابته مستحسنة في طريقة «٥» الأدباء. وله من الفضل والمزية ملازمته لبيت الله الحرام، والتزامه الاعتمار على الدوام، وحجّته «٦» مع الحجاج في كل عام، وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام. ولقد مشى به للمغاربة بحظّ في الحرم الشريف، لم يكن لهم في غير مدّته.
وكان أصحاب «٧» مكة، شرّفها الله، يهتدون بأفعاله، ويعتمدون على مقاله.
قلت «٨» : وأغراض الناس في هذا الرجل متباينة، بعيدة عن الاعتدال، فمنهم الموهن «٩» المكفّر، ومنهم المقلّد المعظّم، وحصل لطرفي هذين الاعتقادين من الشهرة والذّياع ما لم يقع لغيره. والذي يقرب من الحق، أنه كان من أبناء الأصالة ببلده، وولّي أبوه خطّة المدينة، وبيته نبيه، ونشأ ترفا مبجّلا، في ظل جاه، وعزّ نعمة، لم تفارق معها نفسه البلد. ثم قرأ وشدا، ونظر في العلوم العقلية، وأخذ التحقيق عن أبي إسحاق بن دهاق، وبرع في طريقة الشّوذية «١٠» ، وتجرّد واشتهر، وعظم أتباعه، وكان وسيما جميلا، ملوكي البزّة، عزيز النفس، قليل التصنع، يتولّى خدمته الكثير من الفقراء السّفارة، أولي العبا والدقاقيس، ويحفون به في السّكك، فلا يعدم ناقدا، ولا يفقد متحاملا. ولما توفرت دواعي النقد عليه من الفقهاء زيّا وانتباذا ونحلة وصحبة واصطلاحا، كثر عليه التأويل، ووجهت لألفاظه المعاريض، وفلّيت موضوعاته، وتعاورته الوحشة، ولقيه فحول من منتابي تلك النّحلة، قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والاضطلاع، والخوض في بحار تلك الأغراض. وساءت منه لهم في الملاطفة السيرة، فانصرفوا عنه مكظومين «١١» يندّرون في الآفاق عليه من سوء القيلة، ما لا شيء فوقه. ورحل إلى المشرق، وجرت بينه وبين الكثير من أعلامه خطوب. ثم نزل مكة، شرفها الله تعالى، واختارها قرارا، وتلمذ له أميرها، فبلغ من