لو ظائف الأبواب السلطانية، متوقد الذهن، ذلق الجوانب، مشغوفا بالأنس والمفاوضة في الأدب، محسنا للنادرة الظريفة، مليح الدّعابة، غزير الحفظ، غيورا على الخطّة، كثير النشاط إلى المذاكرة، مع استغراق الكلف، وعلو السن. طال به المرض حتى أذهب جواهر بدنه، وعلى ذلك فما اختلّ تميّزه، ولا تغيّر إدراكه.
بعثت إليه باكور رمّان، فقال لي من الغد، نعم بالهدنة زمانك، يعني نعمت الهدية رمّانك. فعجب الناس من اجتماع نفسه، وحضور فكره. وهو شيخي الذي نشأت بين يديه وتأدبت به، وورثت خطّته عن رضى منه. كتب عن الدول النصرية نحوا من خمسين سنة أو ما ينيف عليها، متين الجاه، رفيع المكانة، بعيد الصيت، وسفر إلى الملوك، واشتهر بالخير، والحمل على أهل الظلم، وجرى ذكره في التاج بما نصّه «١» :
صدر الصّدور الجلّة، وعلم أعلام هذه الملّة، وشيخ الكتابة وبانيها «٢» ، وهاصر أفنان البدائع وجانيها، اعتمدته الرياسة، فناء «٣» بها على حبل ذراعه، واستعانت به السياسة، فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه «٤» ، فتفيّأ للعناية ظلّا ظليلا، وتعاقبت «٥» الدول فلم تر به بديلا، من ندب على علوّه متواضع، وحبر لثدي المعارف راضع، لا تمرّ «٦» مذاكرة في فنّ إلّا وله فيه التّبريز، ولا تعرض جواهر الكلام على محاكاة «٧» الأفهام إلّا وكلامه الإبريز، حتى أصبح الدهر راويا لإحسانه، وناطقا بلسانه، وغرّب ذكره وشرّق، فأشام «٨» وأعرق، وتجاوز البحر الأخضر والخليج الأزرق، إلى نفس هذّبت الآداب شمائلها، وجادت الرياض خمائلها، ومراقبة لربّه، واستباق لروح الله من مهبّه، ودين لا يعجم عوده، ولا تخلف وعوده. وكلّ ما ظهر علينا- معشر «٩» بنيه- من شارة تجلى «١٠» بها العين،