تكدّر صفوهم، قال: أقبلوا على شأنكم، ما نحن وذاك، اليوم خمر وغدا أمر «١» ، بيننا وبينه أمداد الفجو، والنّشور الجبال وأمواج البحار، ولكن لا بدّ له أن يتملّك بلدي، ويقعد منه مقعدي، وهذا أمر لا يلحقه أحد منّا، وإنما يشقى أحفادنا. قال جعفر: فلمّا دخل الأمير القصر، عند خلعه حفيد باديس برحبة مؤمّل «٢» ، طاف بكل ركن ومكان منه، وأنا في جملته حتى انتهى إلى ذلك المجلس، فبسط له ما قعد عليه، فتذكرت قول باديس، وتعجبت منه تعجّبا ظهر عليّ، فالتفت إليّ أمير المسلمين منكرا، وسألني ما بي، فأخبرته وصدقته، وقصصت عليه قول باديس، فتعجّب، وقام إلى المسجد بمن معه، فصلّى فيه ركعات، وأقبل يترحّم على قبره.
وفاته: قال أبو القاسم بن خلف: توفي باديس ليلة الأحد الموفي عشرين من شوّال سنة خمس وستين وأربعمائة «٣» ، ودفن بمسجد القصر. قلت: وقد ذهب أثر المسجد، وبقي القبر يحفّ به حلق له باب، كل ذلك على سبيل من الخمول، وجدث القبر رخام، إلى جانب قبر الأمير المجاهد أبي زكريا يحيى بن غانية، المدفون في دولة الموحّدين به.
وقد أدال اعتقاد الخليفة في باديس بعد وفاته، قدم العهد بتعرّف أخبار جبروته وعتوّه على الله سبحانه، لما جبلهم عليه من الانقياد للأوهام والانصياع للأضاليل، فعلى حفرته اليوم من الازدحام بطلاب الحوائج والمستشفين من الأسقام، حتى أولو الدّواب الوجيعة، ما ليس على قبر معروف الكرخي، وأبي يزيد البسطامي.
ومن أغرب ما وقفت عليه رقعة رفعها إلى السلطان على يدي رجل من أهل الخبر مكتّب «٤» يؤمّ في مسجد القصبة القدمى من دار باديس، يعرف بابن باق، وهو يتوسّل إلى السلطان ويسأل منه الإذن في دفنه مجاورا لقبره. وعفو الله أوسع من أن يضيق على مثله، ممّن أسرف على نفسه، وضيّع حقّ ربّه. ودائره اليوم طلول قد