فلم يزل له بهما «١» المكان المكين، إلى أن تغيّر عليه يحيى لتغيّر الزمان، وتقلّب الليالي والأيام بالإنسان، ولحق «٢» بغرناطة بعسكر البرابرة، فحلّت به من أميرهم باديس الفاقرة «٣» .
من روى عنه: قال أبو الوليد: قرأت عليه بالحضرة الحماسة في اختيار أشعار العرب، يحملها عن أحمد بن عبد السلام بن الحسين البصري، ولقيه ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، عن أبي رياش أحمد بن أبي هشام بن شبل العبسي بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وله في الفضائل أخبار كثيرة.
محنته ووفاته: لحقه عند باديس مع عمه يدّير بن حباسه تهمة في التدبير عليه، والتسوّر على سلطانه، دعتهما إلى الفرار عن غرناطة، واللّحاق بإشبيلية. قال أبو يحيى الورّاق: واشتدّ شوق أبي الفتوح إلى أهله عند هربه مع يدّير إلى إشبيلية لمّا بلغه أن باديس قبض على زوجته وبنيه وحبسهم بالمنكّب عند العبد قدّاح صاحب عذابه، وكان لها من نفسه موقع عظيم، وكانت أندلسيّة جميلة جدّا لها طفلان ذكر وأنثى، لم يطق عنهما صبرا وعمل على الرجوع إلى باديس طمعا في أن يصفح عنه، كما عمل مع عمّه من أبي ريش؛ فاستأمن إلى باديس يوم نزوله على باب إستجة إثر انهزام عسكر ابن عباد، وفارق صاحبه يدّير، ورمى هو بنفسه إلى باديس من غير توثّق بأمان أو مراسلة؛ فلما أدخل عليه وسلم، قال له: ابتدئ، بأي وجه جئتني يا نمّام؟
ما أجرأك على خلقك، وأشدّ اغترارك بسحرك، فرّقت بين بني ماكسن، ثم جئت تخدعني كأنك لم تصنع شيئا؛ فلاطفه، وقال اتّق الله يا سيدي، وارع ذمامي، وارحم غربتي وسوء مقامي، ولا تلزمني ذنب ابن عمّك؛ فما لي سبب فيه، وما حملني على الفرار معه إلّا الخوف على نفسي لسابق خلطته؛ ولقد لفظتني البلاد إليك مقرّا بما لم أجنه رغبة في صفحك، فافعل أفعال الملوك الذين يجلّون عن الحقد على مثلي من الصعاليك؛ قال: بل أفعل ما تستحقّه إن شاء الله؛ أن تنطلق إلى غرناطة، فدم على حالك، والق أهلك إلى أن أقبل، فأصلح من شأنك. فاطمأنّ إلى قومه، وخرج إلى غرناطة وقد وكّل به فارسان، وقد كتب إلى قدّاح بحبسه؛ فلمّا شارف إلى غرناطة قبض عليه، وحلق رأسه، وأركب على بعير، وجعل خلفه أسود فظّ ضخم يوالي صفعه، فأدخل البلد مشهّرا، ثم أودع حبسا ضيّقا، ومعه رجل من أصحاب يدّير أسر في الوقعة من صنهاجة، فأقاما في الحبس معا إلى أن قفل باديس.