للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سيدي، أطلق الله يدك بما تملك، وفتر عن منحك البخل لئلّا تهلك. كنت قد هوّمت، وحذّرني القلق فتلوّمت. ولومي كما علمت سيء الخصال، عزيز الوصال. يمطل ديني، ويعاف طيره ورد عيني. فإذا الباب يدقّ بحجر، فأنبأني عن ضجر، وجار الجنب يؤخذ بالذّنب، فقمت مبادرا وجزعت، وإن كان الجزع مني نادرا. واستفهمت من وراء الغلق، عن سبب هذا القلق. فقالت امرأة من سكان البوادي: رابطة الفؤاد يا قوم، رسول خير، وناعق طير، وقرع إذلال، لا فرع إدلال. حطّوا شعار الحرب والحرب، فقد ظفرتم ببلوغ الأرب، فتأخرت عن الإقدام، وأنهدت إليه، فحنّ عمر بن أبي ربيعة عمن كان بالدّار من الخدّام، فأسفرت الوقيعة عن سلام وسلم، ولم يزن أحد منا بكلم. ونظرت إلى رجل قرطبي الطّلعة والأخلاق، خاو على الإطلاق، تنهّد قبل أن يسلّم، وارتمض لما ذهب من الشّبيهة وتألّم. شنشنة معروفة، وعين تلك الجهات معاذ الله مصروفة.

وقد حمّلته سيادتكم من المبرّة ضروبا شتّى، وتجاوزت في المسرّات غاية حتى.

ولم تضع عضوا من جسده، فضلا عن منكبه ويده، إلّا علّقته وعاء ثقيلا، وناطت به زنبيلا. واستلقى كالمنيّ إذا ترك المعترك، وعلت حوله تلك الأثقال، وتعاورها الانتقال، وكثر بالزّقاق القيل والقال. فلمّا تخلّصت إلى الدار، وسترت معرفتها بالجدار، وتناولها الاختبار الفاضح، وبان قصورها الواضح، فتلاشت، بعد ما جاشت، ونظرت إلى قعب من اللّبن الممزوق، الذي لا يستعمل في البيوت ولا يباع في السّوق، فأذكرتني قول الشاعر: [البسيط]

تلك «١» المكارم لا قعبان من لبن ... شيبت بماء فعادت بعد أبوالا

أما زبده فرفع، وأما جبنه فاقتيت به وانتفع، وأما من بعثه من فضلاء الخدّام فدفع، وكأني به قد ألحّ وصفع، والتفت إلى قفّة قد خيطت، وبعنق ذاك البائس قد نيطت، رمس فيها أفراخ الحمائم، وقلّدت بجيده كما يتقلد بالتمائم، وشدّ حبلها بمخنقه، وألزم منها في العاجل طائره في عنقه، هذا بعد ما ذبحت، وأما حشوها فربحت. ولو سلكتم الطريقة المثلى، لحفظتم جثّتها من العفن كما تحفظ جثة القتلى، وأظنكم لم تغفلوا هذا الغرض الأدنى، ولا أهملتم هذه الهمم التي غريزة في المبنى. فإني رميت منها اللهو رمي المختبر، فكلح من مرارة الصبر، ولما أخرجتها من كفن القفّة، واستدعيت لمواراتها أهل الصّفة، تمثّلت تمثّل اللبيب،