ولمّا جدّ به البين، وحلّ هذه البلاد «١» بحال تقبحها العين، والسيف بهزّته، لا بحسن بزّته، دعوته «٢» إلى مجلس أعاره البدر هالته، وخلع عليه الأصيل غلالته، وروض تفتّح كمامه، وهمى عليه غمامه، وكاس أنس تدور، فتتلقّى نجومها البدور. فلمّا ذهبت المؤانسة بخجله، وتذكّر هواه ويوم نواه حتّى خفنا حلول أجله، جذبنا للمؤانسة زمامه، واستقينا «٣» منها غمامه، فأمتع وأحسب، ونظر ونسب، وتكلّم في المسائل، وحضر «٤» بطرف الأبيات وعيون الرسائل، حتى نشر الصباح رايته، وأطلع النهار آيته.
ومما أنشدنا ونسب لنفسه «٥» : [الوافر]
غرامي فيك جلّ عن القياس ... وقد أسقيتنيه بكل كاس
ولا أنسى هواك ولو جفاني ... عليك أقاربي طرّا وناسي
ولا أدري لنفسي من كمال ... سوى أنّي لعهدك غير ناس
وقال في غرض معروف «٦» : [الطويل]
بعثت بخمر فيه ماء وإنّما ... بعثت بماء «٧» فيه رائحة الخمر
فقلّ عليه الشكر إذ قلّ سكرنا ... فنحن بلا سكر وأنت بلا شكر
ومما خاطبني به «٨» : [البسيط]
رحماك بي فلقد خلّدت في خلدي ... هوى أكابد منه حرّة «٩» الكبد
حللت عقد سلوّي في «١٠» فؤادي إذ ... حللت منه محلّ الروح في «١١» جسدي
مرآك بدري وذكراك التذاذ فمي ... ودين حبّك إضماري ومعتقدي
ومن جمالك نور لاح في بصري ... ومن ودادك روح حلّ في خلدي
لا تحسبنّ فؤادي عنك مصطبرا «١٢» ... فقبل حبّك كان الصبر طوع يدي
وهاك جسمي قد أودى النّحول به ... فلو طلبت وجودا منه لم تجد