وفي "البدائع": ولا بأس للجنب أن ينام، ويعاود أهله قبل أن يتوضأ، وإن أراد أن يأكل أو يشرب يتمضمض ويغسل يديه، ثم يأكل ويشرب؛ لأن الجنابة حلّت الفم فلو شربَ قبل أن يتمضمض صار الماء مستعملًا فيصير شاربًا الماء المستعمل، ويده لا تخلو عن نجاسة فينبغي أن يغسلها ثم يأكل.
قلت: فيه نظر من وجوه لا تخفى:
الأول: أن هذا ليس مذهب أبي حنيفة، وإنما هو مذهب أبي يوسف على ما صّرح به الطحاوي، وكل من ذكر أبا حنيفة ومحمدًا مع من لا يرى بأسًا للجنب إذا أراد النوم، فقد ذكر عن غير علم بمذهب أبي حنيفة، وإنما مذهبه أنه يرى باستحباب الوضوء للجنب إذا أراد النوم للأحاديث الصحيحة الواردة فيه، ألا ترى كيف صرح الطحاوي بذكر أبي يوسف مع الطائفة الأولى وسكت عن ذكر أبي حنيفة ومحمد، وهو أعلم الناس باختلاف العلماء من غير منازعة فيه:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
والثاني: لا نسلم صيرورة الماء مستعملا للشرب، لعدم النية، وإزالة الحدث بالكلية.
والثالث: يفهم من كلامه أن شرب الماء المستعمل ممنوع، وليس كذلك؛ لأنه ماء طاهر بالإجماع، بل طهور أيضًا عند البعض حتى قالوا: إنه يجوز الطبخ والعَجْنُ بالماء المستعمل، فإذا كان هذا جائزًا فالشرب كذلك.
ص: وقالوا: هذا الحديث غلط؛ لأنه حديث مختصر، اختصره أبو إسحاق من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه، وذلك أن فهدًا حدثنا، قال: أنا أبو غسّان، قال: أنا زهيرٌ، قال: نا أبو إسحاق، قال: أتيتُ الأسود بن يزيد، وكان لي أخًا وصديقًا، فقلت له: يا أبا عُمر، حدثني ما حدّثتك عائشةُ أم المؤمنين عن صلاة النبي - عليه السلام -، فقال: قالت: "كان النبي - عليه السلام - ينام أول الليل ويحيي آخره، ثم إن كانت له