كما ذكرنا، ثم إنَّ النبي - عليه السلام - لما اكتفى في هذا الحديث بالمسح على الناصية عن مسح ما بقي من رأسه دل فعله ذلك أن الفرض في مسح الرأس هو مقدار الناصية، إِذ لو كان غيرها منها فرضًا لما اكتفي بها، ودلّ ذلك أيضًا أن مسحه جميع رأسه في الأحاديث المتقدمة كان ذلك منه على سبيل الفضل والنفل، لا على سبيل الوجوب، إِذْ لو لم يكن الأمر كذلك يلزم التضاد بين هذه الآثار؛ لأن حديث المغيرة يدل على وجوب البعض، وأحاديث غيره تدل على وجوب الكل فإذا حملنا على المعنى المذكور يرتفع التضاد، وتستوي معاني الآثار.
ص: وأما من طريق النظر: فإنا رأينا الوضوءَ يجبُ في أعضاء، فمنه ما حكمُه أن يغسل، ومنها ما حكمُه أن يمسح، فأما ما حكمه أن يغسل فالوجه، واليدان، والرجلان في قول من يوجب غسلهما، فكل قد أجمع أن ما وجب غسله من ذلك فلا بد من غسله كله، ولا يجزى غسل بعضه دون بعض، فكان ما وَجب مسحه من ذلك هو الرأس، فقال قوم حكمهُ أن يُمسح كله كما تغسل تلك الأعضاء كلها.
وقال آخرون: يمسح بعضه دون بعض، فنظرنا فيما حكمه المسح كيف هو؟ فرأينا حكم المسح على الخفين قد اختلف فيه، فقال قوم: يمسح ظاهرهما وباطنهما، وقال آخرون: يمسح ظاهرهما دون باطنهما، فكل قد اتفق أن فرض المسح في ذلك هو على بعضهما دون مسح كلهما، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم مسح الرأس هو على بعضه دون بعض، قياسًا ونظرًا على ما بينا من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن - رحمهم الله-.
ش: أي وأما حكم هذا الباب من وجه النظر والقياس وهذا قياس اقتراني جملي مشتمل على مقدمتين؛ لأن تقديره: فرض الرأس في الوضوء مسح كفرض الرجل التي في الخف، وكل رجل في الخف لا يجب استيعاب مسحه، ينتج فرض الرأس لا يجب استيعاب مسحه وكلام الطحاوي ظاهر.