للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله: "فلينظر أحرى ذلك" أي أولى ذلك وأقربه إلى الصواب. وفيه من الفوائد: وجوب الأخذ بالتحري عند وقوع الشك بين الثلاث والأربع، وكذلك بين الثنتين والثلاث والواحدة والثنتين، ولا يلزمه الاقتصار على الأقل والإتيان بالزيادة كما ذهب إليه الخصم.

فإن قيل: التحرّي في حديث عبد الله محمول على الأخذ بالأقل الذي هو اليقين؛ لأن التحري هو القصد، ومنه قوله تعالى: {تَحَرَّوْا رَشَدًا} (١) ومعنى قوله: "فليتحر": فليقصد الصواب فيعمل به، وقصد الصواب هو ما بيّنه في حديث أبي سعيد الخدريّ وغيره على ما مضى ذكره.

قلت: حديث أبي سعيد محمول على ما إذا تحرّى ولم يقع تحريه على شيء، فنقول: إذا تحرى ولم يقع تحرِّيه على شيء بني على الأقل.

وحديث أبي سعيد لا يخالف ما قلنا؛ لأنه ورد في الشك وهو ما استوى طرفاه، ومن شك ولم يترجح له أحد الطرفين يَبْني على الأقل؛ بالإجماع.

وقول الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله- في دفع هذا: إن تفسير الشك بمستوي الطرفين إنما هو اصطلاح طارئ للأصولين، وأما في اللغة: فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يُسمّى شكًّا سوى المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يُحمل على اللغة ما لم تكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، ولا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح؛ لأن المراد الحقيقة العرفية وهي أن الشك ما استوى طرفاه.

ولئن سلمنا أن يكون المراد معناه اللغوي فليس معنى الشك في اللغة ما ذكره؛ لأن صاحب "الصحاح" فسر الشك في باب: "الكاف" فقال: الشك خلاف اليقين. ثم فسر اليقين في باب: "النون" فقال: اليقين: العلم. فيكون الشك ضد العلم، وضد العلم الجهل، ولا يُسمّى المتردد بين وجود الشيء وعدمه جاهلًا، بل يُسمّى شاكًا،


(١) سورة الجن، آية: [١٤].

<<  <  ج: ص:  >  >>