ص: وحجة أخرى: أنّا رأيناهم أجمعوا أنَّ المسافر يُصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يُحدث، وإنما اختلفوا في الحاضر، فوجَدْنا الأحداث من الجماع والاحتلام والغائط والبول وكل ما إذا كان من الحاضر كان حدثًا يوجب به عليه طهارة، فإنه إذا كان من المسافر كان كذلك أيضًا، ووجب عليه من الطهارة ما يجب عليه لو كان حاضرا، رأينا طهارة أخرى يَنقضها خروجُ وقتٍ، وهي المسح على الخفين، فكان الحاضرُ والمسافر في ذلك سواء، ينقضُ طهارتَها خروج وقت ما، وإنْ كان ذلك الوقت في نفسه مختلفا في الحضر والسفر، فلما ثبت أنَّ ما ذكرنا كذلك، وأنَّ ما ينقض طهارة الحاضر من ذلك ينقض طهارة المسافر، وكان خروج الوقت عن المسافر لا ينقض طهارته؛ كان خروجه عن المقيم أيضًا كذلك؛ قياسا ونظرا على ما بَيَّنَّا من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-.
ش: لما ادعت أهل المقالة الأولى وجوب الوضوء لكل صلاة على الحاضرين دون المسافرين، أشار بهذه الحجة إلى بطلان هذا الفرق بالوجه الذي يقتضيه النظر والقياس، تحريره: أنَّ الكل متفقون على أنَّ المسافر يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يُحدث، واختلافهم في الحاضر، ومتفقون على أنَّ كل ما هو حدث في حق الحاضر مما يُوجب عليه الطهارة؛ فإنه في حق المسافر كذلك، ومتفقون أنَّ المسح على الخفين طهارة ينقضها خروج الوقت، يعني تمام المدة، وإنْ كانت المدة في نفسها مختلفة، فإذا ثبت هذا وثبت أنَّ ما ينقض طهارة الحاضر ينقض طهارة المسافر، وكان خروج وقت الصلاة عن المسافرلا ينقض طهارته؛ حتى لم يكن يحتاج إلى الوضوء إلَّا بالحدث، كان خروجه عن المقيم كذلك لا ينقض طهارته ما لم يحدث؛ قياسا عليه ونظرا.
قوله:"فوجدنا الأحداث من الجماع" أيّ الأحداث الحاصلة من الجماع ... إلى آخره.
قوله:"وكلُّ ما إذا كان من الحاضرِ" بالرفع مبتدأ، وخبره: قوله: "فإنه إذا كان من المسافر" ودخلت الفاء لتُضَّمِّن المبتدأ معنى الشرط.