وإن أرادوا الوجه الثاني، فقد جعلوا للبائع صاعًا دينا بلبن دين، وهذا غير جائز لا في قولهم ولا في قول غيرهم فأي المعنيين أرادوا فهم فيه تاركون أصلاً من أصولهم، وقد كان هؤلاء أولى بالقول بنسخ الحكم في المصراة؛ لكونهم يجعلون اللبن في حكم الخراج، وغيرهم لا يجعلون كذلك؛ فظهر من ذلك فساد كلامهم وفساد ما ذهبوا إليه.
فإن قيل: لا نسلم أن يكون اللبن في حكم الخراج، لأن اللبن ليس بغلة وإنما كان محفلا فيها، فلزم رده.
قلت: هذا ممنوع؛ لأن الغلة هي الدخل الذي يحصل على ما ذكرنا، وهو أعم من أن يكون لبنا أو غيره، وأيضًا يلزمهم على هذا أن يقولوا: برد عوض اللبن إذا ردَّ المصراة بعيب آخر غير النصرية؛ ولم يقولوا به.
فإن قيل: هذا حكم خاص في نفسه، وحديث الخراج بالضمان عام، والخاص يقضي على العام.
قلت: هذا زعمك وإنما الأصل ترجيح العام على الخاص في العمل به، ولهذا رجحنا قوله -عليه السلام-: "ما أخرجت الأرض ففيه العشر" على الخاص الوارد بقوله: "ليس في الخضروات صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وأمثال ذلك كثيرة.
ثم إنه أخرج حديث عائشة -رضي الله عنها- من خمس طرق:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن مخلد -بفتح الميم وسكون الخاء- ابن خفاف -بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء- ابن أيماء الغفاري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة -رضي الله عنها-.