فدلَّ ذلك أن من أبيح قتله هو الذي يقاتل، ولكن لما روي حديث دريد هذا وهذه الأحاديث الآخر وجب أن تصحح ولا يدفع بعضها بعضًا، والنهي من رسول الله -عليه السلام- في قتل الشيوخ في دار الحرب ثابت في الشيوخ الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب من قتال ولا رأي.
وحديث دريد على الشيوخ الذين لهم معونة في الحرب كما كان لدريد فلا بأس بقتلهم وإن لم يكونوا يقاتلون؛ لأن تلك المعونة التي تكون منهم أشد من كثير القتال، ولعل القتال لا يلتئم لمن يقاتل إلا بها، فإذا كان ذلك كذلك قتلوا، والدليل على ذلك قول رسول الله -عليه السلام- في حديث رباح أخي حنظلة في المرأة المقتولة:"ما كانت هذه تقاتل" أي فلا تقتل؛ لأنها لا تقاتل، فإذا قاتلت قُتلت وارتفعت العلة التي لها منع من قتلها، وفي قتلهم دريد بن الصمة للعلة التي ذكرنا دليل أنه لا بأس بقتل المرأة إذا كانت أيضًا في تدبيرها لأمور الحرب كالشيخ الكبير في تدبيره لأمور الحرب، فهذا الذي ذكرنا هو الذي يوجبه تصحيح معاني هذه الآثار.
وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن قتل أصحاب الصوامع:
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا بعث جيوشه قال: لا تقتلوا أصحاب الصوامع".
فلما جرت سنة رسول الله -عليه السلام- على ترك قتل أصحاب الصوامع الذين قد حسبوا أنفسهم عن الناس وانقطعوا عنهم، وأمن المسلمون من ناحيتهم؛ دلّ ذلك على أن كل من أمن المسلمون من ناحيته من شيخ فانٍ أو امرأة أو صبي؛ كذلك أيضًا لا يقتلون، فهذا وجه هذا الباب. وهو قول محمد بن الحسن، وهو قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-.
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث بريدة بن الحصيب؛ فإن فيه النهي صريحًا عن قتل الشيخ الكبير.