ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بذلك بأسًا، وكان من الحجة لهم في ذلك: أن ذلك لو كان مكروهًا لكان ركوب البغال مكروهًا؛ لأنه لولا رغبة الناس في البغال وركوبهم إياها إذًا لما أنزيت الحمير على الخيل، ألا ترى أنه لما نهى عن إخصاء بني آدم كره بذلك اتخاذ الخصيان؛ لأن في اتخاذهم ما يحضهم على إخصائهم؛ ولأن الناس إذا تحاموا كسبهم لم يرغب أهل الفسق في اخصائهم.
وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا عفيف بن سالم، قال: ثنا العلاء بن عيسى الذهلي قال: "أتي عمر بن عبد العزيز بخصي، فكره أن يبتاعه، وقال: ما كنت لأعين على الأخصاء".
فكل شيء في ترك كسبه ترك لأهل بعض المعاصي لمعصيتهم فلا ينبغي كسبه، فلما أجمع على إباحة اتخاذ البغال وركوبها؛ دلَّ ذلك على أن النهي الذي في الآثار الأُول لم يُرَد به التحريم، ولكنه أريد به معنى آخر.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور العلماء وفقهاء الأمصار منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، فإنهم قالوا: لا بأس بإنزاء الحمير على الخيل.
قوله:"وكان من الحجة لهم" أي من البرهان والدليل لهؤلاء الآخرين. وباقي الكلام ظاهر.
وقال الخطابي في هذا الموضع: يشبه أن يكون المعنى في ذلك -والله أعلم- أن الحمر إذا حملت على الخيل تعطلت منافع الخيل وقلَّ عددها وانقطع نماؤها، والخيل يحتاج إليها للركوب والجهاد، ولحمها مأكول ويسهم للفرس، وليس للبغل شيء من هذه الفضائل، فأحب -عليه السلام- أن ينمو عدد الخيل فيكثر نسلها لما فيه من النفع والصلاح، ولكن قد يحتمل أن يكون حمل الخيل على الحمير جائز؛ لأن الكراهية في هذا الحديث إنما جاءت في حمل الحمير على الخيل لئلا تشتغل أرحامها بنسل الحمر فيقطعها ذلك عن نسل الخيل، فإذا كانت الفحولة خيلًا والأمهات حمرًا فقد يحتمل