ص: ففي هذا الحديث إباحة البول قائمًا وهذا أولى مما ذكرنا قبله عن عائشة، لأن حديث عائشة إنما فيه:"من حدثك أن رسول الله -عليه السلام- بال قائمًا بعدما أنزل عليه القرآن فلا تصدقه" أي لأن القرآن لما نزل عليه أمر فيه بالطهارة واجتناب النجاسة والتحرز منها، فلما رأت عائشة ذلك، وعلمت تعظيم رسول الله -عليه السلام- لأمر الله، وكان الأغلب عندها أن من بال قائمًا لا يكاد يسلم من إصابةِ البولُ ثيابَه أو بدنه؛ قالت ذلك، وليس فيه حكاية منها عن رسول -عليه السلام- توافق ذلك.
ثم جاء حذيفة - رضي الله عنه - فأخبر أنه رأى رسول الله -عليه السلام- بالمدينة -بعد نزول القرآن عليه- يبول قائمًا فثبت بذلك إباحة البول قائما إذا كان البائل في ذلك يأمن النجاسة على بدنه وثيابه، وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - في هذا ما يدل على ما ذهبنا إليه من معنى حديثها الذي ذكرناه.
حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة قالت:"من حدثك أنَّه رأى رسول الله -عليه السلام- يبول قائمًا فكذِّبه، فإني رأيته يبول جالسًا".
ففي هذا الحديث ما يدل على ما دفعت به عائشة رواية من روى أنه رأى رسول الله -عليه السلام- يبول قائمًا، وإنما رؤيتها إياه يبول جالسًا فليس عندنا دليل على ذلك، لأنه قد يجوز أن يبول جالسًا في وقت ويبول قائمًا في وقت آخر، فلم نحك عن النبي -عليه السلام- في هذا شيئًا يدل على كراهة البول قائمًا.
ش: أراد بهذا الحديث: حديث حذيفة المذكور، ودلالته على إباحة البول قائمًا ظاهرة لا تنكر.
قوله:"وهذا أولى" أي الأخذ بحديث حذيفة أولى من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وبين وجه الأولوية بقوله:"لأن حديث عائشة .. إلى آخره" وإنما أول بهذا التأويل؛ لأن ظاهره يدفع خبر حذيفة، وخبر حذيفة صحيح ثابت، والدليل على صحة هذا المعنى أن خبر حذيفة مدني ابتداء، ونزول القرآن كان بمكة؛ على ما لا يخفى.