للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بترك القود وأخذ المال؛ فإنه لا يقال له: عُفي له، وإنما يقال له: عفي عنه فتقام "اللام" مقام "عن"، أو بحمله على أنه عفي له عن الدم، فينضم حرفًا غير مذكور، ونحن متى استغنينا بالمذكور عن المحذوف، لم يجز لنا إثبات الحذف.

وهَاهنا وجه آخر يَرُدُّ تأويلهم: وهو أن قوله: {مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (١) كلمة "مِن" تقتضي التبعيض؛ لأن ذلك حقيقتها وبابها، إلا أن تقوم الدلالة على غيره، فيوجب هذا أن يكون العفو عن بعض دم أخيه، وعندهم هو عفو عن جميع الدم وتركه إلى الدية، وفيه إسقاط حكم "مِن"، ومن وجه آخر وهو قوله: {شَيْءٌ} (١) وهذا أيضًا يوجب العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه، فمن حمله على الجميع لم يوف الكلام حظه من مقتضاه وموجبه؛ لأنه يجعله بمنزلة ما لو قال: فمن عفي له عن الدم وطولب بالدية فأسقط حكم قوله: "من" وقوله: "شيء"، ولا يجوز لأحد تأويل الآية على وجه يؤدي إلى إلغاء شيء من لفظها ما أمكن استعماله على حقيقته، ومتى استعمل على ما ذكره أهل المقالة الثانية كان موافقًا لظاهر الآية.

وأيضًا فتأويلهم أشد ملاءمة لرواية ابن عباس بنسخ ما كان على بني إسرائيل من إيجاب حكم القود ومنع أخذ البدل، فأبيح لنا بالآية أخذ قليل المال وكثيره، ويكون الولي مندوبًا إلى القبول -إذا سهل له القاتل بإعطائه المال- وموعودًا عليه بالثواب، ويكون السبب الذي نزلت عليه الآية حصول الفضل من بعض على بعض في الديات وأُمِرُوا فيه بالاتباع بالمعروف، وأُمِرَ القاتل بالأداء إليهم بإحسان.

فإن قيل: ما تأوله أهل المقالة الأولى في إيجاب الديّة للولي باختياره من غير رضا القاتل تحتمله الآية، فوجب أن يكون مرادًا؛ إذ ليس فيه نفي لتأويلات غيرهم، ويكون قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} (١) معناه ترك لهم، من قوله: عفت


(١) سورة البقرة، آية: [١٧٨].

<<  <  ج: ص:  >  >>