للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المنازل إذا تركت حتى درست، والعفو عن الذنوب ترك العقوبة عليها، فيفيد ذلك ترك القود إلى الدية.

قلت: إن كان ذلك كذلك فينبغي أن يكون لو ترك الدية وأخذ القود أن يكون عافيًا؛ لأنه تارك لأخذ الدية وقد سمي ترك المال وإسقاطه: عفوًا، قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (١) فأطلق اسم العفو على الإبراء من المال، ومعلوم عند الجميع امتناع إطلاق العفو على مَن آثر أخذ القود وترك أخذ الدية فكذلك العادل عن القود إلى أخذ الدية لا يستحق اسم العافي، إذ كان إنما اختار أحد شيئين كان مخيرًا في اختيار أيهما شاء؛ لأن مَن كان مخيرًا بين أحد شيئين فاختار أحدهما، كان الذي اختاره هو حقه الواجب له قد تعين عليه حكمه عند فعله كأنه لم يكن غيره، ألا ترى أن مَن اختار التكفير بالعتق في كفارة اليمين كان العتق هو كفارته؟ كأنه لم يكن غيره، وسقط عنه حكم ما عداه أن يكون من فرضه؟ كذلك هذا الولي لو كان مخيرًا في أحد شيئين من قود أو مال، ثم اختار أحدهما، لم يستحق اسم العافي لتركه أحدهما إلى الآخر، فلما كان اسم العافي منتفيًا عمن ذكرنا حاله؛ لم يجز تأويل الآية عليه. والله أعلم.

قوله: "وفي حديث أبي شريح. . . ." إلى آخره إشارة إلى أن استدلال أهل المقالة الأولى به أيضًا غير صحيح؛ لأن المذكور فيه: "فهو بالخيار بين أن يعفو أو يقتص أو يأخذ الدية" فجعل الشارع عفوه غير أخذه الديّة، فظهر من ذلك أنه إذا عفى لا تكون له دية، وإذا لم تكن له دية بعفوه عن الدم، يثبت بذلك أن الذي كان قد وجب له هو الدم، وأن أخذه الدية التي أباحها الله لهذه الأمّة رحمةً وتخفيفًا، هو الذي يأخذها بدلًا عن ذلك الدم، وأخذ البدل من الشيء لم نجده يجب ألا برضا من يجب عليه، ورضا من يجب له، يعني بالتراضي من الجانبين، وذلك كمتلف المال الذي له مثل لا يعدل عنه إلى غيره إلا بالتراضي، لقوله


(١) سورة البقرة، آية: [٢٣٧].

<<  <  ج: ص:  >  >>