حرم بعقد الذمة بالعقوبة في انتهاك المال الذي قد حرم بالإسلام، ولا شك أن دم الرجل وماله في الحرمة سواء، على أن القطع في السرقة وإن كان من حقوق الله تعالى، ولكنه لا يظهر إلا من جهة المسروق منه.
ص: فإن قال قائل: فإنا قد رأينا العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الأموال قد فُرِّق بينها وبين العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الدم، وذلك أنا رأينا العمد يسرق من مال مولاه فلا يُقطع، ويَقْتُل مولاه فيُقْتَل، فَفُرق بين ذلك، فما تنكرون أيضًا أن يكون قد فرق بين ما يجب في انتهاك مال الذمي ودمه؟
قيل له: هذا الذي ذكرت قد زاد ما ذهبنا إليه توكيًدا؛ لأنك ذكرت أنهم أجمعوا أن العبد لا يُقطع في مال مولاه، وأنه يقتل بمولاه وبعبد مولاه، فما وصفت من ذلك كما ذكرت فقد خففوا أمر المال ووكدوا أمر الدم، فأوجبوا العقوبة في الدم حيث لم يوجبوها في المال.
فلما ثبت توكيد أمر الدم وتخفيف أمر المال، ثم رأينا مال الذمي يجب في انتهاكه على المسلم من العقوبة كما يجب عليه فيه انتهاكه مال المسلم، كان دمه أحرى أن يكون عليه في انتهاك حرمته من العقوبة ما يكون عليه في انتهاك دم المسلم، وقد أجمعوا أن ذميًّا لو قتل ذميًّا ثم أسلم القاتل، أنه يقتل بالذمي الذي قتله في حال كفره، ولا يبطل ذلك بإسلامه.
فلما رأينا الإِسلام الطارئ على القتل لا يبطل القتل الذي كان في حال الكفر، وكانت الحدود تمامها أخذها ولا يؤخذ على حال لا يجب في البدء مع تلك الحال، ألا ترى أن رجلا لو قتل رجلا والمقتول مرتد أنه لا يجب عليه شيء، وأنه لو جرحه وهو مسلم ثم ارتد فمات منها لم يقتل، فصارت ردته التي تقدمت الجناية والتي طرأت عليها في درء القتل سواء، فكان كذلك في النظر: أن يكون القاتل قبل جنايته وبعد جنايته سواء، فلما كان إسلامه بعد جنايته قبل أن يُقْتل بها، لا يدفع عنه القود، كان كذلك إسلامه المتقدم لجنايته لا يدفع عنه القود. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-.