وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يخيل على عاقل ولا جاهل؛ لأن الناس أجمعوا على أن ما عدا وقذف بالزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر، وأنه لا يزال خمرًا حتى يصير خلًّا، وأنها ليست محرمة العين كما حرم عين الخنزير، وإنما حرمت بغرض دَخَلَها، فإذا زايلها ذلك الغرض عادت حلالًا كما كانت قبل الغليان حلالًا، كالمسك كان دمًا عبيطًا دائمًا ثم جف وحدثت رائحته فيه فصار طيبًا حلالًا.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الخمر المحرمة في كتاب الله -عز وجل- هي الخمر التي من عصير العنب إذا نش العصير وألقى بالزبد. هكذا كان أبو حنيفة يقول. وقال أبو يوسف: إذا نش وإن لم يلق بالزبد فقد صار خمرًا.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: الخمر التي حرمها الله تعالى في القرآن ونصَّ عليها هي التي من عصير العنب إذا نش، من نَشَّ يَنِشُّ نَشِيشًا، وهو صوت الماء وغيره عند الغليان. ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف في الإلقاء بالزبد بعد الغليان، هل هو شرط أم لا؟
فقال أبو حنيفة: شرط، وقال أبو يوسف: ليس بشرط. وقد ذكر صاحب "الهداية" والنسفي وغيرهما محمدًا مع أبي يوسف، وقالوا: قال أبو يوسف ومحمدًا: القذف بالزبد ليس بشرط، لأنه سمي خمرًا قبل ذلك. وبه قال مالك والشافعي وأحمد.
وأما الغليان والشدة فشرط بالإجماع، وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه "اختلاف العلماء": إن سفيان قال: اشرب العصير ما لم يغل، وغليانه أن يقذف بالزبد، فإذا غلا فهو خمر، وكذلك قال أصحاب الرأي، وهو قول الشافعي، وقال أحمد وإسحاق: يشرب العصير ما لم يغل، أو يأتي عليه ثلاثة أيام، فإذا أتى عليه ثلاثة أيام لم يشرب، غلا أو لم يغل.