وقد تحصل من عرض أدلته التي ذكرها أنه يستند في منعه أن يكون الكلام بصوت وحرف إلى أنه يلزم منه إنشاء الكلام حال الإسماع، وفى ذلك تجويز السكوت عليه قبله، وهذا ما ينافى اتصافه تعالى بالكلام على جهة الأزل. وأصل هذه الشبهة تعود عنده إلى اعتقاد استحالة اتصاف الله تعالى بالحوادث، وأن في إثبات حدوث الآحاد حدوث الأصل، فلا تكون صفة الكلام فيه قديمة كالصفات السبعة الأخرى.
ويكفى في إبطال هذه الشبهة ما عليه مذهب السلف - رضوان الله تعالى عليهم - حيث أثبتوا اتصافه تعالى بالصفات الاختيارية، وأنه لا تعارض بين إثبات آحاد الصفة والصفة نفسها. فأصل الصفة قديمة قد اتصف الله تعالى بها، فهى ملازمة لذاته سبحانه جل وعلا أما آحادها فهى حادثة، لها ارتباط بمشيئته تعالى، فمتى شاء تكلم بما شاء سبحانه من الكلام الدال على عظمته، فلا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، دل على ذلك الكثير من أدلة الكتاب والسنة ومنها قوله تعالى:{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[البقرة: ١١٧].
وليس في اعتقاد أنه تعالى يتكلم متى شاء بما شاء ما يلزم منه اتصافه بالسكوت في وقت ما أو نفيه عنه، فإن النافى عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل، والحق أنه يجب في مثل هذه الألفاظ التوقف فيها لعدم ورود الدليل الذي يقطع بتعيين الحكم. هذا وقد استدل بعض العلماء بحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو). (١) ولكن ليس في هذا الحديث ما يثبت صفة السكوت مطلقًا، وإنما هو من باب السكوت المضاف، وهذا مما عهد في لغة العرب؛ فقد يكون الإنسان متكلمًا بحديث يتعلق بأمر ما ولم
(١) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب اللباس - باب ما جاء في لبس الفراء، رقم الحديث: ١٧٢٦: وقال الترمذي حديث غريب: (٤/ ١٩٢) وأخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأطعمة - باب ما يذكر تحريمه، رقم الحديث: ٣٧٩٤: (٤/ ٢٩٨)، والحاكم في المستدرك: كتاب التفسير - باب سورة مريم، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي على صحته، (٢/ ٣٧٥). وقد روى من طرق أخرى كلها ضعيفة لا تقوى أن تكون شاهدة لهذا الحديث الحسن قد ضعفها الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم: ٢٦١، وتعقبه الإمام النووى وبين أسباب ضعفه.