للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فاق العصور التي قبله؛ فقد فرض على الفلاحين السخرة أو دفع الضريبة، وحرم عليهم أن يأكلوا شيئًا من كد أيديهم، كما أبطل التجارة، ورفع أسعار المعيشة أضعافًا مضاعفة، وهيمن على جميع الأنشطة الاقتصادية، فزاول بذلك أشد أنواع الاشتراكية ضراوة وتحكمًا؛ حتى يصف الجبرتى المعاصر ما آل إليه الوضع عندما كلف محمد على سكان القاهرة بتعميرها بقوله: فاجتمع على الناس عشرة أشياء من الرذالة وهى: السخرة، والمعونة، وأجرة الفعلة، والذل، ومهنة العمل، وتقطيع الثياب، ودفع الدراهم، وشماتة الأعداء من النصارى، وتعطيل معاشهم، وعاشرها أجرة الحمام (١).

ولم يكن هذا الطور الإنشائى ليغفر لمحمد على ما لاقاه الشعب في ذلك الأوان من أنواع المذلة والمهانة؛ وذلك لأنه ما كادت تنتهى هذه المرحلة التعميرية إلا وقد فتحت مصر أبوابها للتجار الأوروبيين، حتى صار اعتماد الطبقة الناشئة في مصر اعتمادًا كليًا على الأسواق الأجنبية، إلى جانب ما واكب هذا الاتجاه الاستعمارى الاقتصادى من السيطرة على الحياة الفكرية بعد أن شل دعاة الاتجاه الإسلامى، وأوقف مناهج التعليم القائمة على الدين؛ تنفيذًا لسياسة نابليون الماسونية، وهو أمر أكده المؤرخ الإنجليزى أرنولد توينبى في قوله: وكان محمد على ديكتاتورًا أمكنه تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعالة في مصر (٢).

هذا وقد أفرز البعد عن تعاليم الدين وضعف آصرته في قلوب المسلمين ظهور النزعات العصبية؛ فقد آل الأمر بالمجتمع المسلم إلى تقسيمه بالتمايز الطبقى، فالطبقة الحاكمة تعيش حياة استقراطية منعزلة عن بقية أجزاء المجتمع؛ بحكم وظيفتها وتقييمها لذاتيتها، وقد أحدث هذا التمايز الطبقى آثارًا سلبية على المجتمعات، فقد حالت دون الشعور بالولاء للطبقة الحاكمة؛ مما أدى إلى اشتداد النقمة عليها.


(١) عجائب الآثار، للجبرتى: (٢/ ٥٣٧)، وانظر: في تاريخ العثمانيين، الدكتور/ زكريا بيومى: ١٨٠.
(٢) في تاريخ العثمانيين: ١٨٢.

<<  <   >  >>