للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومع استماتة الحكام في الحفاظ على قبضة الحكم ضد المستعمرين الأجانب، إلا أن في تقديم الكثير من الامتيازات الاقتصادية والثقافية والدينية للأوربيين، أثرًا بالغ الخطر، فقد أدى بدوره في النهاية إلى تحقيق المطامع الاستعمارية الأوربية، عندما سننحت الفرصة بضعف الدولة العثمانية (١).

ومع ذلك فقد كان المجتمع المسلم في تلك الآونة يتمتع بنوع من الاندماج لم يحظ به منذ غياب الدولة العباسية، فقد كانت حرية الانتقال والسفر أمامهم مكفولة ومحترمة في جميع الأوقات، وكانت فرص العمل متاحة لهم كذلك، وكان في مقدور العربى في دمشق أن ينتقل إلى بغداد أو مكة المكرمة أو المدينة المنورة أو القاهرة أو القيروان أو غيرها من المدن الإسلامية، ويعيش فيها ويمارس ألوانًا من النشاط الاقتصادى أو الثقافى، دون أن يحصل على إذن بالخروج أو إقامة (٢).

كما كان المجتمع آنذاك تشده آصرة الدين بالرغم من وجود الطبقية المخالفة لهذا المبدأ فقد كانت هذه الوشيجة من أقوى الأواصر التي ربطت الجماهير العربية بالدولة العثمانية، حيث أخلصوا في مشاركتها الحروب والمعارك ضد الحملات الصليبية التي استهدفتها في تلك الآونة، ولعل من أبرز الدلائل على ذلك الترابط الدينى ما حدث في مصر عندما هاجمت الحملة الفرنسية أرض مصر بقيادة نابليون، حيث أعلن السلطان العثمانى الجهاد الدينى ضد المعتدين الفرنسيين، فاستجاب لهذه الدعوة بعض سكان الحجاز والشام فهبوا لنجدة إخوانهم في أرض الكنانة، وبكل عزم وصدق استطاعوا أن يهزموا ذلك الكيد الخائن، وقد سبقت الإشارة إليه (٣).

إن ذلك التآخى الذي عاشته المجتمعات الإسلامية في تلك الآونة إنما يظهر نقاؤه إذا ما قورن بالتفتت السياسى الذي أحدثته الدول الصناعية إبان غزوها الاستعمارى للدول المسلمة فقد عملت تلك الدول على تفرقة الشعوب المسلمة، حيث بقى ذلك التفرق قامعًا على جثمانها إلى يومنا هذا.


(١) انظر: في تاريخ العرب الحديث، رأفت الشيخ: ٤٤.
(٢) الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامى الحديث، الدكتور/ أسامة ياغى: ٢٣٨.
(٣) انظر المبحث السابق.

<<  <   >  >>