وهذا الذي ذكره العلماء في بيان شروط كلمة التوحيد إنما هو حصيلة الجمع بين نصوص الكتاب والسنة، والذي يحتمه التسليم والرضا بكافة ما ورد فيهما دون تغليب لجانب على آخر، فلا إفراط ولا تفريط.
وإذا ثبت هذا الأصل، علم أساس الضلال فيما انبنى على مسائل الإيمان والكفر من أحكام الوعد والوعيد عند الفرق المختلفة، فعلاوة على ما سبق بيانه من الأسس التي انبنى عليها فهم كل منهم لهذه المسائل العظام التي ترتكز عليها أحكام الدنيا والآخرة، فإن ذلك الفهم القاصر لحقيقة ما جاء به الدين المنزل من عند الله تعالى؛ حمل كل فرقة منهم على تغليب جانب منه على الجانب الآخر، مما يدل على ضعف البصيرة التي امتدح الله تعالى عباده المتصفين بها.
فالخوارج غلبوا جانب الوعيد على الوعد، والمرجئة في المقابل غلبوا جانب الوعد على الوعيد؛ فضلت الفئتان عن سلوك الصراط المستقيم الموجب للإيمان بـ (كل من عند ربنا) وكان السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم - هم من مثل منهج التوسط في هذا الباب كما أسلفت سابقًا.
فالارتباط بين الظاهر والباطن، حقيقة لا ينكرها إلا جاحد معاند، فإن من اطمأن قلبه بالإيمان والتسليم لا بد أن يظهر أثر ذلك على ظاهره يالامتثال للمأمور والترك للمحظور، والعكس بالعكس فإن من انطوى على خبث نية حتى مع إظهار ما يخالفها لا بد أن يتبين حقيقة ما أسره ولو من فلتات لسانه.
فمن غير المعقول أن يمتنع المكلف عن الامتثال مع توفر المقتضى من الإيمان والتصديق، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام ابن القيم - رحمه الله - حيث قال:"مبدأ كل علم نظرى، وعمل اختيارى هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضى وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطى العادة". (١)