للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مراحل التصوف:

من ذلك البيان المسبق يمكن القول بأن التصوف ظهر في بيئة محافظة، عرفت بالعبادة والزهد، ولكن هذا لا يعني صحة ما ذهب إليه الصاوي من الحكم على التصوف بأنه فرع علم التوحيد، وأن استمداده من الكتاب والسنة، وأن واضعه هو النبي وأصحابه الكرام، بل يعد هذا في الحقيقة من قبيل التقارير الذاتية، التي لا تستند إلى الموضوعية البتة، وذلك لأن الحديث عن نشأة التصوف يعد حديثًا عن المرحلة الأولى من مراحل التصوف، الذي كان يميل في تلك الآونة إلى معالجة السلوك وتهذيبه بأنواع التبتل والانقطاع عن الدنيا، وذلك نتيجة لإقبال الناس على الدنيا والتفاخر بها، فكان هذا منهم كردة فعل اتجاه ذلك الانحراف الخلقي الذي ساد المجتمع في القرن آنذاك.

ومع وجود بعض المخالفات من أولئك الصوفية والتي حملت بعض الصحابة الكرام على إنكار تلك الأحوال إذ خرجت في مجملها على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام - رضوان الله عليهم -، إلا أنه لا يمكن أن يقال: إن التصوف بقى على تلك الحالة التي كان عليها أولئك الزهاد والعباد، بل يعد هذا القول من الصاوي محاولة متعذرة النجاح في الجمع بين فترات متباينة مختلفة أشد الاختلاف، ومن ثم الحكم عليها بحكم واحد دون تمييز، أو تنبيه.

والصواب في هذا أن التصوف قد مر بمرحلة بعد هذه المرحلة خرج فيها التصوف عن شعار الزهد والانقطاع عن الدنيا، فقد تحول التصوف من الجانب العملي إلى جانب التنظير والتقعيد، حيث ألفت التآليف وخرج القوم بأفعال خالفوا فيها السنة بوضوح، فبدلًا من المحبة استحدثت كلمة العشق كتعبير عنها، وصار الحب الإلهي هو عنوان السائرين إلى الله، فليس للخوف أو الرجاء مكانًا عليًا عندهم، وظهرت المصطلحات الغامضة كالفناء والبقاء والجمع، لتضيف نوعًا من التميز والخصوصية لأهل التصوف، ومع أنها في بادئ الأمر لم تصل إلى القدح في المعتقد، إلا أنه قد ردها الكثير من العلماء، وتكلموا في بيان ما تحمله من الاشتباه المخل بصفاء الإيمان وبرد اليقين (١).


(١) وسيأتي الحديث عنها فيما بعد بإذن الله: ٧٠٠.

<<  <   >  >>