للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

البشرية، حتى إذا خلصت من الأهواء والشهوات لمكان نزول الضر، الذي استقر في صميمها أن دفعه لا يكون إلا من جهة الرب، سكنت بكليتها لهذا النداء الفطري، واتجهت برفع الأيدي؛ لتترجم مقتضى هذه الفطرة، بكلمات تضم صراحة أعلى درجات الإيمان بالله تعالى، والإقرار بكمال ربوبيته وجلاله وعظمته، ولهذا أشار الحق بقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: ٦٧].

ومن هنا كان الاستدلال بالخلق على الخالق تعالى؛ هو من قبيل الكشف عن هذه الحقيقة الفطرية المغروسة في النفس البشرية، ومن ثم تنبيهها إذا أصابتها الغفلة أو علاها النسيان، ولهذا امتدح المولى تعالى عباده الذين يتفكرون في عظيم مخلوقاته؛ إذ يتحقق بذلك استشعار عظمة الله تعالى، ومن ثم إخلاص العبادة له على وجه يتم به تحقيق مقتضى الإيمان من التسليم لمراضى الرب تعالى، وعلى هذا فليس الاستدلال بالخلق على الحق سبحانه هو مقام المحجوبين؛ كما يدعي الصاوي، بل حقيقة هذا الاستدلال إن صح إطلاق ذلك المسمى عليه؛ ترتيب مقدمات ضرورية فطرية، تسلم أيضًا إلى نتيجة فطرية، فكون هذه الموجودات مخلوقة؛ فمن الأمور الفطرية، التي لم يمارى فيها من لم تدنسه أوهام الفلسفات، وكونها مخلوقة لله تعالى فهي أيضًا من الأمور الفطرية، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: ٢٥].

* * *

- وقبل الخوض في مسألة المقامات التي اعتمدها الصاوي، لا بد أولًا من توجيه الألباب إلى أن كل هذه المصطلحات من البدع الحادثة، التي لم تصل إلينا بطريق معتمد، يتحقق به التشريع والتعبد، ولكن لما اشتهر الحديث عنها بين الصوفية على طبقاتهم المختلفة؛ فكان منهم أهل تقوى وورع وعلم، وكان منهم من هو بخلاف ذلك، ممن تستر بهذه التسمية ليدخل على الإسلام والمسلمين أشد أنواع الفتن في الدين، عمد أهل التحقيق بدافع الورع والإنصاف إلى تحليل هذه المفاهيم الذوقية،

<<  <   >  >>