للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لله أوجبت محبة الله له محبة منه أخرى، فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روحه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة، فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى، مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب على محبه الصادق في محبته، التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع لمحبوبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به، فهو في في قلبه ومعه ومؤنسه وصاحبه، فالباء ها هنا باء المصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك أنزل الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية لا علمية محضة، وإذا كان المخلوق يجد هذا في محبة المخلوق، التي لم يخلق لها، ولم يفطر عليها، كما قال بعض المحبين:

خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب

وقال الآخر:

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

ومن عجب أني أحن إليهم ... فأسأل عنهم من لقيت وهم معي" (١)

وعليه فلا حجة في هذا الحديث لمن استدل به على مقام الفناء والبقاء بالمعنى المنحرف، فقد ذهب غلاة الصوفية إلى أن المراد من قوله: كنت سمعه الذي يسمع به، اتحاد العبد بربه؛ حتى يصير هذا عين هذا؛ كما قال بذلك ابن عربي وغيره، وهذا يبطله النص ذاته قبل أن يستدل على بطلانه بغيره من النصوص، التي تعلم بالضرورة من دين الإسلام، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - في بيان ذلك: فـ "قد بين في هذا الحديث أن المتقرب ليس هو المتقرب إليه بل هو غيره، وأنه ما تقرب إليه بمثل أداء المفروض، وأنه لا يزال بعد ذلك يتقرب بالنوافل؛ حتى يصير محبوبًا لله، فيسمع به ويبصر به ويبطش به ويمشي به، ثم قال: (ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)، ففرق بين السائل والمسؤول، والمستعيذ والمستعاذ به وجعل العبد سائلًا لربه مستعيذًا به" (٢).


(١) الجواب الكافي لمن سأل الدواء الشافي: (١/ ١٣٠).
(٢) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (١٧/ ١٣٤).

<<  <   >  >>