وإذا استحال إرادة ذلك المعنى الباطل من الحديث، فإنه يرد كل معنى لا يدل عليه، ومن ذلك ما ذكره الصاوي في هذا الشأن، فقد أغرب حين استدل به على ما ذكر من المقامات وأبعد، وحقيقة كلامه أنه جعل المتقربين إلى مرضاة الله تعالى، الراجين بذلك عفوه، الراغبين في ثوابه بالنوافل، هم في مقام السائرين، ولما يصلوا بعد إلى مقام الكمل، وأما الذين فنوا في نيل مبتغاهم من أهل محبته، فهم في مقام الفناء.
ويأتي في المرتبة التالية لهم من غرقوا في هذه الحقيقة، حتى صارت معرفتهم بكل شيء سوى الله تالية لمعرفتهم به.
ومع تقدم بيان بطلان أن يكون هذا مقام الكاملين؛ لأن غايته فناء في توحيد الربوبية، الذي لم يكن محل نزاع بين الرسل وأقوامهم، فمعرفة الله تعالى فطرية لم يمار فيها إلا القليل؛ ممن انتكست فطرتهم، وغابوا عما جبلت عليه قلوبهم؛ بما أصابها من رين الشهوات والشبهات، إلا أن المقام هنا يستدعي مزيدًا من البيان؛ لعدم دلالة الحديث على ما ذهب إليه فيها.
فليس مقام السائرين إلى الله تعالى بالقيام بأنواع النوافل مقام العوام، كما تقدم من كلامه، بل هو مقام الكمل من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال تعال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، يقول الشيخ السعدي - رحمه الله -: "أي يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي، ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها"(١). وهم في كل ذلك راغبين راهبين خاشعين.
فإن محبة الله تعالى لم تكمل لأحد كما كملت للأنبياء، وعلى جهة الخصوص: إبراهيم ومحمد - عليهم جميعًا أفضل الصلاة والتسليم -، ومع ذلك