ولما انقضى أربه من الزيارة عاد فمات فجأة وهو جالس يصنف ويكلم ولده البدر بعد عصر يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين ودفن من الغد بمقبرة باب الصغير عند سلفه وكان له مشهد لم ير لأحد من أهل عصره مثله وتأسف الدمشقيون على فقده، ومن الغريب ما حكاه ولده أنه قبل موته أظنه بيوم ذكر موت الفجأة وأنه إنما هو أخذة أسف للكافر وأما المؤمن فهو له رحمة وقرر ذلك تقريرًا شافيًا قلت وقد ترجم البخاري في الجنائز من صحيحه موت الفجأة، وقد ترجمه بعض المتأخرين فقال: إنه ناب مدة بشهامة وصرامة وحرمة وكلمة نافذة ثم استقل مرتين، وانتهت إليه رياسة المذهب في زمانه بل رياسة الشام كلها وصار مرجعها إليه ومعولها في مشكلاتها عليه ورزق من ذلك ما لم يرزقه فيه غيره حتى قال الحسام الحنفي أنه لم يحصل لشافعي قط ما حصل له فإنه يرى نص الشافعي في مسألة فتواه على خلافه فيعمل بها لكونه عندهم أخبر بنص الشافعي من غيره ولم يدانه في زمانه بل ولا قبله من مدد في معرفة فروع الشافعية سيما تخريج كلام المتأخرين أحد وكتب بخطه الكثير بحيث لو قال القائل أنه كتب مائتي مجلد لم يتجاوز وخطه فائق دقيق وبيع في تركته نحو سبعمائة مجلد كاد أن يستوفيها مطالعة وألف التاريخ الكبير ابتدأ فيه من سنة مائتين إلى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وفي أثنائه خرم أكمله بعض تلامذته وذيلًا على تواريخ المتأخرين الذهبي والبرزالي وابن رافع وابن كثير وغيرهم ابتدأه من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة إلى سنة نيف وعشرين وثمانمائة في ثمان مجلدات واختصره في مجلدين ثم اختصره في مجلد وكتب حوادث زمنه إلى يوم وفاته وعمل طبقات الشافعية والحنفية إلى غير ذلك مما لا يحصى اختصارًا وانتقاءً وجمعًا، قال العز القدسي دخلت دمشق قبل الفتنة فلم أر فيها ولا سمعت ممن نشأ أحسن منه صورة وسيرة، وكان شكلًا حسنًا يلبس القماش النفيس ويركب البغال المثمنة معظمًا مكرمًا وقورًا لا يخاطب غالبًا إلا جوابًا عليه جلالة ومهابة عنده نفرة من الناس وبعض حدة مزاج لم أر مثله في معناه ولما أرسل الظاهر جقمق رسوله لشاه رخ كان أحد أربعة سأله عنهم فأجابه ببقائهم فقال الحمد لله بعد في الناس بقية؛