للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا يَرْوِيهِ الْقَصَّاصُ جُلِدَ تِسْعُمِائَةٍ وَسِتِّينَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: ٢٤] إلَى قَوْلِهِ {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: ٢٥] وَقَوْلُهُ أَوَّابٌ فَتَنَّاهُ أَيْ اخْتَبَرْنَاهُ وَأَوَّابٌ أَيْ مُطِيعٌ وَإِنَّمَا الصَّادِرُ مِنْ دَاوُد قَوْلُهُ لِأُورْيَا تَلْوِيحًا انْزِلْ لِي عَنْ امْرَأَتِك أَيْ طَلِّقْهَا وَأَكْفِلْنِيهَا أَيْ أَعْطِنِيهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِ فَأَنْكَرَهُ تَعَالَى لِكَوْنِهِ شَغْلًا بِالدُّنْيَا وَتَرْكًا لِلْأَوْلَى وَقِيلَ: خَطَبَهَا عَلَى خِطْبَتِهِ وَقِيلَ: هُوَ مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَقَطْ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ دَاوُد أَرْسَلَ أوريا فِي الْمَهَالِكِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيُقْتَلَ فَيَتَزَوَّجُ زَوْجَتَهُ لَا يَصْدُرُ مِنْ أَهْلِ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ بَعْضِ أَعْلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَمَّا قِصَّةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِخْوَتِهِ فَلَيْسَ عَلَى يُوسُفَ تَعَقُّبٌ وَلَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّةُ إخْوَتِهِ بَلْ هُمْ صِغَارٌ عِنْدَ هَذَا الْوَقْتِ وقَوْله تَعَالَى - {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: ٢٤]- الْهَمُّ عِنْدَ كَثِيرٍ لَيْسَ فِيهِ مُؤَاخَذَةٌ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» وَالتَّحْقِيقُ إنْ تَوَطَّنَ الْهَمُّ فِي النَّفْسِ فَسَيِّئَةٌ وَإِلَّا فَلَا.

وَهَمُّ يُوسُفَ مِنْ عَدَمِ التَّوَطُّنِ وَقَوْلُهُ - {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: ٥٣]- أَيْ مِنْ هَذَا الْهَمِّ أَوْ لِلتَّوَاضُعِ أَوْ الِاعْتِرَافِ لِتَزْكِيَتِهِ قِيلَ: لِعَدَمِ صُدُورِ الْهَمِّ كَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَمَّا خَبَرُ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ قَتِيلِهِ وَوَكْزِهِ فَقَبْلُ النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْقَتْلَ بَلْ أَرَادَ دَفْعَ ظُلْمِهِ وَقَوْلُهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَقَوْلُهُ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ بِلَا إذْنٍ وَأَمْرٍ وَقَوْلُهُ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: ٤٠] الْمُرَادُ ابْتِلَاؤُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ أَوْ إلْقَاؤُهُ فِي التَّابُوتِ وَالْيَمِّ أَيْ الْبَحْرِ وَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَهُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا» الْحَدِيثَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ مَلَكًا وَقَدْ أَرَادَ إهْلَاكَهُ عَلَى صُورَةِ إنْسَانٍ ثُمَّ بَعْدَ عِلْمِهِ اسْتَسْلَمَهُ وَهَذَا أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا حُكِيَ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَوْلُهُ - {وَلَقَدْ فَتَنَّا} [ص: ٣٤]- أَيْ ابْتَلَيْنَاهُ وَابْتِلَاؤُهُ مَا حُكِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ» فَقِيلَ: الشِّقُّ الْجَسَدُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ وَهِيَ عُقُوبَةٌ وَمِحْنَةٌ وَقِيلَ: ذَنْبُهُ حِرْصُهُ عَلَى جِنْسِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْكَامِلَ لَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: عَدَمُ اسْتِثْنَائِهِ وَقِيلَ: عُقُوبَتُهُ سَلْبُ مُلْكِهِ وَذَنْبُهُ مَحَبَّتُهُ كَوْنَ الْحَقِّ لِأَصْهَارِهِ عَلَى خَصْمِهِمْ وَقِيلَ: أُخِذَ بِذَنْبٍ اكْتَسَبَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ بِغَيْرِ اطِّلَاعِهِ وَرُدَّ بِعَدَمِ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبِ الْغَيْرِ وَدُفِعَ بِجَوَازِ تَقْصِيرِهِ فِي أَمْرِهِنَّ بِنَحْوِ تَأْخِيرِ صَلَاةٍ أَوْ نِيَاحَةٍ مَكْرُوهَةٍ لَا نَحْوَ فِعْلِ فَاحِشَةٍ وَإِلَّا فَسَبٌّ وَأَذِيَّةٌ وَمُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: ٢٦] .

وَحُكِيَ عَنْ الْأَنْطَاكِيِّ أَنَّ الشَّيَاطِينَ مَثَّلُوا لِبَعْضِ نِسْوَانِهِ صُورَةَ أَبِيهَا فَعَبَدَتْهَا فَأُخْبِرَ فَكَسَرَ الصُّورَةَ وَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى فَلَاةٍ تَائِبًا وَلَا يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الْأَخْبَارِيُّونَ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْطَانِ وَتَسَلُّطِهِ عَلَى مُلْكِهِ وَالْجَوْرِ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّسَلُّطِ الشَّيْطَانِيِّ وَقَوْلُهُ - {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: ٣٥]- لَيْسَ لِغِيرَةِ الدُّنْيَا بَلْ لِعَدَمِ تَسَلُّطِ أَحَدٍ عَلَيْهِ أَوْ لِيَكُونَ لَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ كَمَا يَكُونَ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَاصَّةً كَلِينِ الْحَدِيدِ لِأَبِيهِ دَاوُد وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَإِلا تَغْفِرْ لِي} [هود: ٤٧]- الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: ٣٧] فَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ ذَنْبٍ وَطَلَبُ ابْنِهِ لِفَهْمِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَأَهْلَكَ} [هود: ٤٠]- مُطْلَقُ الْأَهْلِ أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُفْرَ ابْنِهِ فَعَاتَبَهُ تَعَالَى فِي هَذَا الطَّلَبِ لِكَوْنِهِ بِلَا إذْنٍ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ ابْنَهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى نَجَاتَهُ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ أَكْثَرَ خَوْفِهِمْ هُوَ خَوْفُ الْعَظَمَةِ وَالْمَهَابَةِ الَّتِي هِيَ مَقَامُ قُوَّةِ الْقُرْبِ وَالْمَعْرِفَةِ وَإِنَّ أَكْثَرَ خَوْفِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُبَاحَةِ لِكَوْنِهَا مَيْلًا إلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا الْجِنْسِ يُحْمَلُ اعْتِرَافُ الْأَنْبِيَاءِ بِالذُّنُوبِ وَتَوْبَتُهُمْ وَبُكَاؤُهُمْ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْجَهْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ عَقْلًا وَإِجْمَاعًا وَقَبْلَهَا سَمْعًا وَنَقْلًا وَعَنْ الْجَهْلِ فِي الْأُمُورِ التَّبْلِيغِيَّةِ قَطْعًا وَشَرْعًا وَعَقْلًا وَعَنْ الْكَذِبِ وَخُلْفِ الْقَوْلِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ قَصْدًا

<<  <  ج: ص:  >  >>