[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حُبُّ الْفَسَقَةِ]
(الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حُبُّ الْفَسَقَةِ) جَمْعُ فَاسِقٍ مِنْ فَسَقَتْ الرُّطَبَةُ عَنْ قِشْرِهَا إذَا خَرَجَتْ، وَأَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ عَنْ الْقَصْدِ وَالْفَاسِقُ فِي الشَّرْعِ الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، وَلَهُ دَرَجَاتٌ ثَلَاثٌ:
الْأُولَى: التَّغَابِي وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَهَا أَحْيَانًا مُسْتَقْبِحًا إيَّاهَا.
وَالثَّانِيَةُ: الِانْهِمَاكُ وَهُوَ أَنْ يَعْتَادَ ارْتِكَابَهَا غَيْرَ مُبَالٍ بِهَا.
وَالثَّالِثَةُ: الْجُحُودُ وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَهَا مُسْتَصْوِبًا إيَّاهَا فَالْأَوَّلَانِ لَا يُكَفِّرَانِ لَعَلَّهُمَا الْمُرَادُ هُنَا (وَالرُّكُونُ إلَى الظَّلَمَةِ) جَمْعُ ظَالِمٍ، وَهُوَ الْمُعْتَدِي عَلَى الْغَيْرِ، وَأَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَرْكَنُوا} [هود: ١١٣] أَيْ لَا تَعْتَمِدُوا أَوْ تَمِيلُوا بِقُلُوبِكُمْ بِأَدْنَى مَيْلٍ فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ كَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَتَعْظِيمِ ذِكْرِهِمْ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: ١١٣] أَوْ لَا تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِهِمْ {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: ١١٣] لِلْمَيْلِ فَإِذَا كَانَ الرُّكُونُ إلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّك بِالرُّكُونِ إلَى الظَّالِمِينَ أَيْ الْمَوْسُومِينَ بِالظُّلْمِ ثُمَّ بِالْمَيْلِ إلَيْهِمْ كُلَّ الْمَيْلِ ثُمَّ بِالظُّلْمِ نَفْسِهِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ أَبْلَغُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّهْيِ عَنْ الظُّلْمِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ (الْآيَةَ) أَيْ كَمِّلْ الْآيَةَ - {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: ١١٣]- يَعْنِي لَا أَحَدَ بَعْدَ اللَّهِ يَمْنَعُكُمْ عَنْ النَّارِ، وَعَذَابِهَا - {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود: ١١٣]- بِمَيْلِكُمْ إلَى الظُّلْمِ وَقِيلَ، وَلَا تَرْكَنُوا أَيْ لَا تَمِيلُوا بِالْقُلُوبِ، وَلَا تُخَالِطُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ، وَلَا تَنْظُرُوا، وَقِيلَ، وَقَعَ التَّحَابُبُ بَيْنَ صَالِحٍ وَظَالِمٍ فَعُذِّبَ الصَّالِحُ بِمَيْلِهِ لِلظَّالِمِ وَغُفِرَ لِلظَّالِمِ بِمَحَبَّتِهِ لِلصَّالِحِ - وَحُكِيَ أَنَّهُ الْتَقَى عَالِمٌ كَبِيرٌ مُفْتٍ بِصَالِحٍ تَقِيٍّ فَقَالَ الْعَالِمُ إنِّي أُحِبُّك، وَقَالَ الصَّالِحُ أَمَا إنِّي لَا أُحِبُّك؛ لِأَنِّي سَمِعْت أَنَّك لَا تُدَاوِمُ الْجَمَاعَةَ، وَلَا تُصَلِّي نَحْوَ الضُّحَى فَاعْتَذَرَ الْعَالِمُ بِأَنِّي مُشْتَغِلٌ بِمَهَامِّ الْأَنَامِ، وَلَا أَتَفَرَّغُ وَقْتًا لِذَلِكَ فَقَالَ الصَّالِحُ فَإِذَنْ آثَرْت خِدْمَةَ الْمَخْلُوقِ عَلَى خِدْمَةِ مَوْلَاك فَبَكَى الْعَالِمُ، وَقَالَ لَعَلَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَك لِعَدَمِ مَحَبَّتِك إيَّايَ وَيَغْفِرُ لِي لِمَحَبَّتِي إيَّاكَ.
وَعَنْ الْكَشَّافِ، وَقَالَ سُفْيَانُ فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُهُ إلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ لِلْمُلُوكِ وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَالِمٍ يَزُورُ عَامِلًا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الذُّبَابُ عَلَى الْعَذِرَةِ أَحْسَنُ مِنْ قَارِئٍ عَلَى بَابِ هَؤُلَاءِ، وَقَالَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دَعَا لِلظَّالِمِ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ» ، وَلَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ ظَالِمٍ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فِي بَرِّيَّةٍ هَلْ يُسْقَى شَرْبَةَ مَاءٍ فَقَالَ لَا فَقِيلَ لَهُ يَمُوتُ فَقَالَ دَعْهُ يَمُوتُ. انْتَهَى. اعْلَمْ أَنَّ فِي مُخَالَطَةِ السَّلَاطِينِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ الْأُولَى الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ إمَّا حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ وَذَلِكَ إمَّا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالسُّكُوتِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَمَّا الْفِعْلُ فَإِنْ كَانَتْ دَارُهُمْ مَغْصُوبَةً فَيَحْرُمُ الدُّخُولُ، وَإِلَّا فَإِنْ سَجَدَ أَوْ رَكَعَ أَوْ أَكْرَمَ فَيَعْصِي فَإِنَّ التَّوَاضُعَ لِغَنِيٍّ غَيْرِ ظَالِمٍ يُنْقِصُ ثُلُثَيْ دِينِهِ فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ، وَأَمَّا تَقْبِيلُ الْيَدِ وَالِانْحِنَاءُ فِي الْخِدْمَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَادِلًا فَمَعْصِيَةٌ، وَإِلَّا فَجَائِزٌ كَمَا قَبَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute