الْعَادِيَّاتُ لَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ لِلسُّنَّةِ، وَالْبِدْعَةُ مَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ فَلَا تَتَنَاوَلُ الْبِدْعَةُ، وَالضَّلَالَةُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْعَادِيَّاتِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا حَدَثَ بَعْدَ الرَّسُولِ حِينَ الْخُلَفَاءِ فَفِيهِ تَأَمَّلْ.
(وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» ؛ لِأَنَّ بِعْثَتِي إنَّمَا هِيَ لِلدِّينِ لَا لِلدُّنْيَا فَأَنْتُمْ لَا تَتَوَقَّفُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا عَلَيَّ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْإِذْنِ إلَى مَا يَحْدُثُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا فَلَا تَكُونُ الْعَادِيَّاتُ مَمْنُوعَةً فَلَا تَتَنَاوَلُ إلَيْهَا.
(وَقَوْلُهُ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا» أَيْ شَرْعِنَا وَدِينِنَا هَذَا «مَا لَيْسَ مِنْهُ» صَرَاحَةً أَوْ إيمَاءً أَوْ إشَارَةً بِأَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ «فَهُوَ رَدٌّ» فَمَا يَكُونُ مُحْدَثًا فِي غَيْرِ أَمْرِ الدِّينِ لَيْسَ بِرَدٍّ وَمَا لَا يَكُونُ مَرْدُودًا لَا يَكُونُ بِدْعَةً لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالِفِ وَذَا لَيْسَ بِجَائِزٍ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ لَا بِالْمَفْهُومِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي غَيْرِ الدِّينِ لَيْسَ بِضَلَالٍ ثُمَّ حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَفُهِمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَ الْبِدْعَةِ لَيْسَ بِضَلَالَةٍ فَتَنَاقَضَا وَحَاصِلُ الْجَوَابِ الْبِدْعَةُ فِي الْحَدِيثِ شَرْعِيَّةٌ.
وَفِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ لُغَوِيَّةٌ فَمَوْضُوعَا الْقَضِيَّتَيْنِ لَيْسَا بِمُتَّحِدَيْنِ، وَقَدْ شَرَطَ فِي التَّنَاقُضِ اتِّحَادَهُمَا ثُمَّ قَوْلُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إلَخْ إشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرْعِيَّةَ وَلَمْ يُشِرْ إلَى قَرِينَةِ إرَادَةِ اللُّغَوِيِّ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ إمَّا لِكَوْنِ بَقَائِهِ عَلَى الْأَصْلِ اللُّغَوِيِّ أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَصْبِ الْعَيْنِ فِي الْمَقَامِ.
[أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا]
(وَالْبِدْعَةُ فِي الِاعْتِقَادِ)
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَتِمَّةِ الْجَوَابِ السَّابِقِ بَلْ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يُرَادُ بِهِ تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا وَتَفَاوُتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَوْ حُمِلَ إلَى جَوَابٍ آخَرَ أَوْ إلَى تَفْصِيلِ الْجَوَابِ السَّابِقِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ فَتَدَبَّرْ (هِيَ الْمُتَبَادَرَةُ مِنْ إطْلَاقِ الْبِدْعَةِ) لِكَوْنِهِ كَمَالَهَا وَعِظَمَ مَفْسَدَتِهَا أَوْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ لِوُفُورِ دَوَاعِي الْمُكَالَمَةِ مَعَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ (وَ) إطْلَاقِ (الْمُبْتَدَعِ وَالْهَوَى وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ) يُقَالُ لِلْفِرَقِ الضَّالَّةِ أَهْلُ الْهَوَى فَالْمُتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا هِيَ الْبِدْعَةُ فِي الِاعْتِقَادِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَذْمُومَةَ بِلِسَانِ الْأَحَادِيثِ سِيَّمَا الْبِدْعَةُ فِي قَوْلِهِ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» مُطْلَقَةٌ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَتَنَاوَلَ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الشُّمُولُ وَدَعْوَى عَدَمِ قَصْدِيَّةِ الشُّمُولِ يُنَافِي السِّيَاقَ وَالسِّيَاقُ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا» لَا سِيَّمَا رِوَايَةُ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا» تَفْسِيرًا لِبَعْضٍ آخَرَ (فَبَعْضُهَا كُفْرٌ) الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ أَيْ عَطْفِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ لَعَلَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا وَاسْتِئْنَافُهَا.
وَالْكُفْرُ كَاعْتِقَادِ الْجِسْمِيَّةِ كَسَائِرِ الْأَجْسَامِ وَالتَّفْصِيلِ فِيمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ وَالتَّمْثِيلُ بِنَحْوِ عَدَمِ عِلْمِهِ تَعَالَى الْجُزْئِيَّاتِ وَجُحُودِ الْحَشْرِ الْجُسْمَانِيِّ وَالْحُكْمِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ إذْ نَحْوُهَا مَذَاهِبُ الْفَلَاسِفَةِ فَاعْتِقَادَاتٌ بَاطِلَةٌ لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ بَلْ قَدِيمَةٌ إذْ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ سَابِقَةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ إلَّا أَنْ يُرَادَ ظُهُورُهَا وَشُيُوعُهَا (وَبَعْضُهَا لَيْسَتْ بِهِ) أَيْ بِكُفْرٍ كَإِنْكَارِ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ (وَلَكِنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرَةٍ فِي الْعَمَلِ) فِي كَبَائِرِ الْعَمَلِ إمَّا لِاعْتِقَادِ حَقِّيَّةَ الِاعْتِقَادِيَّاتِ دُون الْعَمَلِيَّاتِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ أُصُولًا وَأُمَّهَاتٍ لِلْعَمَلِيَّاتِ وَقِيلَ لِتَمَكُّنِهَا فِي النَّفْسِ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا ثُمَّ قِيلَ: وَالصَّحِيحُ وُرُودُ وَعِيدٍ شَدِيدٍ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: ٩٣]- (حَتَّى الْقَتْلَ وَالزِّنَا) وَهُمَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ لِصُدُورِهِمَا عَنْ الْمُؤْمِنِ مُعْتَقِدًا بِحُرْمَتِهِمَا وَلَا يُتَصَوَّرُ مِثْلُهُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ (وَلَيْسَ فَوْقَهَا) أَيْ الْبِدْعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ (إلَّا الْكُفْرُ) ، وَإِنْ تَفَاوَتَ أَفْرَادُهَا فِي أَنْفُسِهَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَعَمَلُهُ وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا كَمَا سَبَقَ لِاعْتِقَادِهِ الْبِدْعَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute