للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خُمُودٌ وَالْوَسَطَ عِفَّةٌ فَالْخُمُودُ مَلَكَةٌ يَقُصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ اسْتِيفَاءِ مَا يَنْبَغِي مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ كَالْعِنِّينِ يُقَالُ خَمَدَتْ النَّارُ إذَا سَكَنَ لَهَبُهَا (فَإِنْ كَانَ مُتَأَهِّلًا) يَحْتَاجُ إلَى الْجِمَاعِ (أَوْ بِهِ مَرَضٌ فِي الْمَعِدَةِ فَعِلَاجُهُ بِالطِّبِّ) وَنَحْوِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُجَرَّبَةِ فَافْهَمْ (وَإِلَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَهِّلًا أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَرَضٌ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْعِلَاجِ فَقَدْ كَفَى) الْخُمُودُ (مَئُونَتَهُمَا) أَيْ الطَّعَامِ وَالْجِمَاعِ لِضَعْفِ دَاعِيَتِهِمَا (وَنَجَا مِنْ غَوَائِلِهِمَا) أَيْ التَّأَهُّلِ وَالْمَرَضِ أَوْ مَفَاسِدِهِمَا وَالْمُؤْمِنُ الْقَلِيلُ الْمُؤْنَةِ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الْكَثِيرِ الْمُؤْنَةِ (وَأَمَّا تَفَاسِيرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَدْ سَبَقَتْ) فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ وَبَيَانِ مَنْشَئِهِ

[السِّتُّونَ آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ]

(السِّتُّونَ) آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ (الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي) الظَّاهِرُ غَيْرُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا أَوْ شَامِلٌ لَهَا إذْ صُدُورُ شَيْءٍ مُغَايِرٌ لِإِصْرَارِهِ (وَهُوَ) أَيْ الْإِصْرَارُ (دَوَامُ قَصْدِ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي وَلَوْ صَدَرَتْ مِنْهُ أَحْيَانَا أَوْ مَرَّةً) وَقَدْ عَرَفْت مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْقَصْدَ سِيَّمَا هُنَا لَا يَشْمَلُ الْهِمَّةَ وَاللَّمَّةَ وَالْخَطِرَةَ بَلْ الْمُرَادُ مَا يَشْمَلُ النِّيَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعَزِيمَةَ فَإِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْقَسَمِ الْأَخِيرِ لَا الْأَوَّلِ قِيلَ هُنَا وَأَمَّا إذَا لَمْ تَصْدُرْ أَصْلًا فَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالشَّيْخِ أَكْمَلِ الدِّينِ لَا يَكُونُ إصْرَارًا بِخِلَافِ الْغَزَالِيِّ كَمَا مَرَّ فَتَأَمَّلْ (وَلَوْ تَخَلَّلَ النَّدَامَةَ) بَيْنَهُمَا (وَالرُّجُوعَ) عَنْهَا (فَلَيْسَ بِإِصْرَارٍ وَلَوْ صَدَرَتْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعِينَ مَرَّةً هَكَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِي الْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا غَايَةَ فَذُنُوبُ الْعَالَمِ كُلُّهَا مُتَلَاشِيَةٌ عِنْدَ حِلْمِهِ وَعَفْوِهِ إذْ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ إلَى الْغَايَةِ ثُمَّ اسْتَقَالَ مِنْهَا بِالِاسْتِغْفَارِ غُفِرَتْ لَهُ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْإِقَالَةَ مِنْ كَرِيمٍ وَالْكَرِيمُ مَحَلُّ الْإِقَالَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ مُقَارَنَةِ عَدَمِ الْإِصْرَارِ الَّذِي هُوَ تَوْبَةٌ نَصُوحٌ وَأَمَّا مَعَ الْإِصْرَارِ فَمُجَرَّدُ ادِّعَاءٍ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ نَفَعَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ وَفِي خَبَرٍ «الْمُسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبٍ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ» وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلِي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَالِاسْتِغْفَارُ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ قُلْت هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ بِدُونِ تَوَاطُؤِ الْقَلْبِ كَمَا يُقَالُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَلَا جَدْوَى لَهُ فَإِنْ أَضَافَ لَهُ تَضَرُّعَ الْقَلْبِ وَابْتِهَالَهُ فَحَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا دَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَةِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ هَذَا الْخَبَرُ وَلِلتَّوْبَةِ دَرَجَاتٌ أَوَائِلُهَا لَا تَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى أَخِرِهَا وَلِذَاكَ قَالَ سَهْلٌ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مَوْلَاهُ فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنْ عَصَى قَالَ يَا رَبِّ اُسْتُرْ عَلَيَّ فَإِنْ فَرَغَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ قَالَ يَا رَبِّ تُبْ عَلَيَّ فَإِذَا تَابَ قَالَ يَا رَبِّ اعْصِمْنِي فَإِذَا عَمِلَ قَالَ تَقَبَّلْ مِنِّي.

وَسُئِلَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ فَقَالَ أَوَّلُ الِاسْتِغْفَارِ الْإِجَابَةُ ثُمَّ الْإِنَابَةُ التَّوْبَةُ فَالِاسْتِجَابَةُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَالْإِنَابَةُ أَعْمَالُ الْقَلْبِ وَالتَّوْبَةُ إقْبَالُهُ عَلَى مَوْلَاهُ بِأَنْ يَتْرُكَ الْخَلْقَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَمِنْ الْجَهْلِ بِالنِّعْمَةِ وَتَرْكِ الشُّكْرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُغْفَرُ لَهُ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ الثَّبَاتِ ثُمَّ الْبَيَانِ ثُمَّ الْقُرْبِ ثُمَّ الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ الْمُنَاجَاةِ ثُمَّ الْمُصَافَاةِ ثُمَّ الْمُوَالَاةِ ثُمَّ الْمُحَادَثَةِ وَهُوَ الْخُلَّةُ وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي قَلْبِ عَبْدٍ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ غِذَاءً وَالذِّكْرُ قِوَامَهُ وَالرِّضَا زَادَهُ وَالتَّوَكُّلُ صَاحِبَهُ ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى يَرْفَعُهُ إلَيْهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى الْعَرْشِ فَيَكُونُ مَقَامُهُ مَقَامَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلتَّكْفِيرِ دَرَجَاتٍ فَبَعْضُهَا مَحْوٌ لِلذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَبَعْضُهَا مُخَفِّفٌ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ التَّوْبَةِ فَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَالتَّدَارُكُ بِالْحَسَنَاتِ وَإِنْ خَلَا عَنْ حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ مِنْ أَوَائِلِ دَرَجَاتِ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ أَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا.

قَالَ أَقُولُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ حَسَنَةٌ أَيْضًا إذْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِهِ عَنْ غَفْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ حَرَكَتِهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِغِيبَةٍ أَوْ فُضُولٍ بَلْ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ قِيلَ لِأَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ لِسَانِي يُحَرَّكُ بِالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَقَلْبِي غَافِلٌ فَقَالَ اُشْكُرْ اللَّهَ الَّذِي اسْتَعْمَلَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِك وَعَوِّدْهُ الذِّكْرَ لَا الْفُضُولَ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنَاوِيِّ.

قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مُقَدَّمَةِ حِزْبِهِ الْأَعْظَمِ فَعَلَيْك حِفْظُ مَبَانِيهِ وَالتَّأَمُّلُ فِي مَعَانِيهِ فَقِيلَ ظَاهِرُهُ لَا ثَوَابَ

<<  <  ج: ص:  >  >>