الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرْجَى ... وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُونُ
اصْبِرْ وَإِنْ طَالَتْ اللَّيَالِي ... فَرُبَّمَا أَمْكَنَ الْحَرُونُ
وَرُبَّمَا نِيلَ بِاصْطِبَارٍ ... مَا قِيلَ هَيْهَاتَ لَا يَكُونُ
ثُمَّ قَالَ فَعَلَيْك بِاغْتِنَامِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الشَّرِيفَةِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِيهَا تَكُنْ مِنْ الْفَائِزِينَ.
(وَ) الصَّبْرُ أَيْضًا أَصْلُ كُلِّ (كَفٍّ عَنْ مَعْصِيَةٍ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَكُونُ بِلَا صَبْرٍ عَلَى تَعَبِهَا، وَلَا يَحْتَرِزُ الْعَبْدُ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمًا لَهُ قِيلَ الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ:
أَوَّلُهَا: أَنْ تَقْهَرَ دَوَاعِيَ الْهَوَى فَلَا يَبْقَى لَهُ قُوَّةُ الْمُنَازَعَةِ هَذَا لِلْمُقَرَّبِينَ.
وَثَانِيهَا: أَنْ تَغْلِبَ دَوَاعِي الْهَوَى وَيَسْقُطَ بِالْكُلِّيَّةِ مُنَازَعَةُ بَاعِثِ الدِّينِ فَسَلَّمَ نَفْسَهُ إلَى جُنْدِ الشَّيْطَانِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْغَافِلُونَ، وَهُمْ الَّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ شِقْوَتُهُمْ وَاسْتَرَقَّتْهُمْ شَهَوَاتُهُمْ، وَعَلَامَتُهَا الْقُنُوطُ وَالْغُرُورُ بِالْأَمَانِيِّ، وَهُوَ غَايَةُ الْحُمْقِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَ الْجُنْدَيْنِ فَتَارَةً لَهُ الْيَدُ عَلَيْهَا وَتَارَةً لَهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ الْمُجَاهِدِينَ لَا مِنْ الْفَائِزِينَ، وَهُمْ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.
(تَتِمَّةٌ) : قَالَ الْفَاضِلُ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ» لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ أَيْ تَذَلُّلَهُ وَمُبَالَغَتَهُ فِي السُّؤَالِ «فَإِذَا دَعَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ صَوْتٌ مَعْرُوفٌ وَقَالَ جِبْرِيلُ يَا رَبِّ اقْضِ حَاجَتَهُ فَيَقُولَ دَعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ» قَالَ الْغَزَالِيُّ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَرَاهُ يُكْثِرُ ابْتِلَاءَ أَوْلِيَائِهِ، وَأَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ هُمْ أَعَزُّ عِبَادِهِ، وَإِذَا رَأَيْت اللَّهَ يَحْبِسُ عَنْك الدُّنْيَا وَيُكْثِرُ عَلَيْك الشَّدَائِدَ وَالْبَلْوَى فَاعْلَمْ أَنَّك عَزِيزٌ عِنْدَهُ، وَأَنَّك عِنْدَهُ بِمَكَانٍ، وَأَنَّهُ لَيَسْلُكَ بِك طَرِيقَ أَوْلِيَائِهِ أَمَا تَسْمَعُ قَوْله تَعَالَى - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨]- بَلْ اعْرِفْ مِنَّتَهُ عَلَيْك فِيمَا يَحْفَظُ عَلَيْك مِنْ صَلَوَاتِك وَيُكْثِرُ مِنْ أُجُورِك وَثَوَابِك وَيُنْزِلُك مَنْزِلَ الْأَبْرَارِ.
(تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْعَارِفُ الْجِيلَانِيُّ التَّلَذُّذُ بِالْبَلَاءِ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ لَكِنْ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ لِعَبْدٍ إلَّا بَعْدَ بَذْلِهِ جَهْدَهُ فِي مَرْضَاتِهِ فَإِنَّ الْبَلَاءَ تَارَةً بِمُقَابَلَةِ جَرِيمَةٍ وَتَارَةً تَكْفِيرٌ وَتَارَةً رَفْعٌ لِلدَّرَجَاتِ وَتَبْلِيغُ الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ؛ وَلِكُلٍّ مِنْهَا عَلَامَةٌ فَعَلَامَةُ الْأَوَّلِ عَدَمُ الصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَكَثْرَةُ الْجَزَعِ وَالشَّكْوَى لِلْخَلْقِ، وَعَلَامَةُ الثَّانِي الصَّبْرُ، وَعَدَمُ الشَّكْوَى وَخِفَّةُ الطَّاعَاتِ عَلَى بَدَنِهِ، وَعَلَامَةُ الثَّالِثِ الرِّضَا وَالطُّمَأْنِينَةُ وَخِفَّةُ الْعَمَلِ عَلَى الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ. اهـ. وَيَدُورُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ بِصَبِّ الْبَلَاءِ وَالْمَصَائِبِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» كَمَا فِي الْجَامِعِ.
[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ]
(الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ) جُحُودُهَا وَسَتْرُهَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) - {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: ١١٢] جَمْعُ نِعْمَةٍ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: ١١٢] أَجْرَى الْإِذَاقَةَ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ لِشُيُوعِهَا فِي الشَّدَائِدِ وَاسْتَعَارَ اللِّبَاسَ لِمَا غَشِيَهُمْ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. قِيلَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ الْجُوعُ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالدَّمَ وَالْخَوْفُ مِنْ سَرَايَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ وَمَعْنَى أَذَاقَهَا لِبَاسَ الْجُوعِ أَنَّ الْمَذُوقَ هُوَ الطَّعَامُ فَلَمَّا فَقَدُوهُ صَارُوا كَأَنَّهُمْ يَذُوقُونَ الْجُوعَ، وَأَيْضًا لَمَّا اسْتَوْلَى الْجُوعُ عَلَيْهِمْ أَحَاطَ بِهِمْ إحَاطَةَ الْمَلْبُوسِ فَحَصَلَ الشَّبَهَانِ فَذِكْرُ الْمَذُوقِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجُوعَ طَعَامُهُمْ، وَاللِّبَاسِ إشَارَةٌ إلَى اشْتِمَالِهِ عَلَيْهِمْ (وَضِدُّهُ) أَيْ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ (الشُّكْرُ، وَهُوَ تَعْظِيمُ الْمُنْعِمِ) بِذِكْرِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَأَفْعَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الثَّنَاءِ (عَلَى مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ عَلَى حَدٍّ يَمْنَعُهُ عَنْ جَفَاءِ الْمُنْعِمِ) لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْجَفَاءِ هُوَ عَدَمُ الرِّضَا وَالْخِذْلَانُ (وَقِيلَ مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ) مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا نِعْمَةً؛ لِأَنَّهَا مُوصِلَةٌ إلَى مَعْرِفَةِ مُنْعِمِهَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى)