«وَخَلَقَ خَلْقًا يُذْنِبُونَ» لِيَتَحَقَّقَ مَظْهَرُ صِفَةِ الْغُفْرَانِ «فَيَغْفِرُ لَهُمْ»
قَالَ فِي الْمَبَارِقِ لَيْسَ هَذَا تَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الذُّنُوبِ بَلْ كَانَ صُدُورُهُ لِتَسْلِيَةِ الصَّحَابَةِ وَإِزَالَةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْخَوْفَ كَانَ غَالِبًا عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّ بَعْضُهُمْ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ لِلْعِبَادَةِ وَبَعْضُهُمْ اعْتَزَلَ النِّسَاءَ وَبَعْضُهُمْ النَّوْمَ وَفِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى رَجَاءِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَتَحْقِيقُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَغْفِرَ لِلْعَاصِي فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ عَاصٍ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَعْصِيهِ فَيَغْفِرُ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لَوْ عَلِمَ عَبْدِي أَنِّي لَذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْت لَهُ وَلَا أُبَالِي مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا» انْتَهَى قَوْلُهُ لِتَسْلِيَةِ الصَّحَابَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَمْرِ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ وَإِلَّا فَلَا كَذِبَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
فَإِنْ قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ الْمُحَالِ بِالْمُحَالِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُذْنِبِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَخَبَرِهِ يَجْعَلُ تَخَلُّفَهُ مُحَالًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنْ لَيْسَ مُحَالًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْغَيْرِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ فَافْهَمْ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الذُّنُوبِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالِانْتِقَامِ وَالْغَضَبِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا أَنَّ انْتِظَارَ الْمَغْفِرَةِ إنَّمَا يُسَمَّى رَجَاءً إذَا تَمَهَّدَتْ جَمِيعُ أَسْبَابِهِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ بَثِّ بَذْرِ الْإِيمَانِ وَسَقْيِهِ بِمَاءِ الطَّاعَاتِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْ شَوْكِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَانْتَظِرْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّبَاتَ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ انْتِظَارُهُ رَجَاءً حَقِيقِيًّا مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا ذُكِرَ مِنْ الشَّرَائِطِ ثُمَّ انْتَظَرَ الْمَغْفِرَةَ فَانْتِظَارُهُ حُمْقٌ وَغُرُورٌ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحَبَّ أَنْ يُحْسِنَ إلَى الْمُحْسِنِ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ الْمُسِيءِ.
[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]
(الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ التَّوَجُّعُ وَالتَّأَسُّفُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ)
الَّتِي غَرَّتْ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ مَعَ أَنَّهَا سَمُومٌ قَاتِلَةٌ وَعَوْرَاتٌ بَادِيَةٌ وَفَضَائِحُ مُرْدِيَةٌ وَقَبَائِحُ مُهْلِكَةٌ تَعْلَمُهَا الْعُقَلَاءُ وَتَغْفُلُ عَنْهَا الْجُهَلَاءُ إذْ هِيَ حُظُوظٌ نَفْسَانِيَّةٌ وَأَعْرَاضٌ شَهْوَانِيَّةٌ حَيْثُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ (وَيَلْزَمُهُ الْفَرَحُ بِإِتْيَانِهَا وَإِقْبَالِهَا وَكَثْرَتِهَا وَمَنْشَؤُهُ) أَيْ الْحُزْنِ الْمَذْكُورِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute