(مِثْلُ مَا سَبَقَتْ) فِي الْكِبْرِ بِالْعِلْمِ أَيْ فِي مَعْرِفَةِ الْكِبْرِ مِنْ الْعِبَادِ حَرَامٌ قَطْعِيٌّ وَأَنَّهُ صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى لَا يَلِيقُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ فَإِذَا حَصَلَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ كَمَا يَنْبَغِي تَكْفِي لِزَجْرِهِ عَنْ الْكِبْرِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يُفْضِي إلَى مُنَازَعَةِ رَبِّ الْعِزَّةِ فَيَسْتَحِقَّ الْقَذْفَ فِي النَّارِ (فَتَذَكَّرْهَا) كَمَا أُشِيرَ آنِفًا فَحَاصِلُ الْعِلَاجِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكِبْرَ بِالْعِبَادَةِ لَوْ تُصُوِّرَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِقَبُولِهَا وَقَبُولُهَا إنَّمَا يَكُونُ اسْتِجْمَاعَ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَإِتْيَانَهَا بِأَوْصَافِهَا الْمُكَمَّلَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ لِقُوَّةِ صُعُوبَتِهَا وَكَثْرَةِ عَوَائِقِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْكِبْرُ بِالْعِبَادَةِ وَحَاصِلُ الثَّانِي أَنَّ الْكِبْرَ صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى فَحَرَامٌ عَلَى الْعَبْدِ قِيلَ هُنَا عَنْ الرِّعَايَةِ، حَاصِلُهُ أَنَّ الْعَابِدَ الْعَالِمَ قَدْ يَحْتَقِرُ مَا هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ لِعَدَمِ عَمَلِهِ مِثْلَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ هَذَا مُضَيِّعٌ لِعِلْمِهِ وَالْحُجَّةُ تَكُونُ عَلَيْهِ آكَدُ وَكَذَا غَيْرُ الْعَالِمِ يَحْتَقِرُ مَنْ كَانَتْ عِبَادَتُهُ أَقَلَّ مِنْهُ لِعَدَمِ عَمَلِهِ مِثْلَهُ وَيَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَيْهِمْ نَظَرَ الْحَقَارَةِ وَيَتَعَظَّمُ عَلَيْهِمْ فَيَنْقَبِضُ مِنْ وَعْظِهِمْ وَسَلَامِهِمْ فَيَرْجُو زِيَارَتَهُمْ وَخِدْمَتَهُمْ وَعِيَادَتَهُمْ دُونَ كُلِّ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ بِالِاسْتِصْغَارِ وَإِلَى نَفْسِهِ بِالتَّعْظِيمِ وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو لَهُمْ، وَكَذَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُمْ أَنَّهُمْ هَالِكُونَ دُونَهُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالرَّجُلِ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» فَإِذَا كَانَ نَظَرُهُ إلَى نَفْسِهِ كَذَا وَإِلَيْهِمْ هَكَذَا وَكَانَ نَظَرُ الْغَيْرِ إلَيْهِ بِالتَّعْظِيمِ وَإِلَى أَنْفُسِهِمْ بِالِاسْتِصْغَارِ وَخَوْفُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُونَهُ عَلَيْهِ بَلْ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ هَالِكُونَ وَهُوَ نَاجٍ فَكَانَ الْغَيْرُ أَعْبَدَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِمَقْتِ اللَّهِ وَحَابِطٌ لِأَجْرِ عَمَلِهِ لِكِبْرِهِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُعَرَّضُونَ لِرَحْمَةِ اللَّهِ لِتَوَاضُعِهِمْ وَحُبِّهِمْ لَهُ فَهُمْ مُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ بِقُرْبِهِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ وَالْحُبِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حُبًّا لَهُ تَعَالَى وَرَجَاءً لِقُرْبَتِهِ تَعَالَى فَقَدْ تَعَرَّضُوا لِلْمَغْفِرَةِ وَالْغُفْرَانِ وَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِحَبْطِ عَمَلِهِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ تَعَالَى.
[السَّبَبُ الثَّالِثُ لِلْكِبْرِ النَّسَبُ]
(وَ) السَّبَبُ (الثَّالِثُ) لِلْكِبْرِ (النَّسَبُ) الشَّرَفُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ (وَالْحَسَبُ) الْحَسَبُ مَا يَعُدُّ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ وَأَيْضًا مَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ بِدُونِ آبَائِهِ (وَالْكِبْرُ بِهِمَا) بِالنَّسَبِ وَالْحَسَبِ الْأَوْلَى بِهِ كَمَا سَيَظْهَرُ وَجْهُهُ (نَاشِئٌ عَنْ الْجَهْلِ أَيْضًا) كَمَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ التَّكَبُّرُ بِالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ الْأَوْفَقُ؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَ الْأَوْقَعَ ذَلِكَ فَافْهَمْ (تَعَزَّزَ) إظْهَارُ عِزَّةٍ أَوْ تَكَلُّفٌ فِي الْعِزَّةِ (بِكَمَالِ غَيْرِهِ) فَظَهَرَ الْمَوْعُودُ آنِفًا مِنْ الْآبَاءِ (وَلِذَا قِيلَ لَئِنْ) اللَّامُ تَوْطِئَةُ قَسَمٍ لَئِنْ (فَخَرْت بِآبَاءٍ ذَوِي شَرَفٍ لَقَدْ صَدَقْت) فِي تَفَاخُرِك (وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوا) أَيْ الْآبَاءُ الْمَذْكُورُونَ لِخُلُوِّك عَنْ الشَّرَفِ فِي نَفْسِك (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا خَرَّجَهُ) (م) مُسْلِمٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ» الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ «لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» يَعْنِي مَنْ أَخَّرَهُ عَمَلُهُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ وُصُولِ الْمَقَامِ الرَّفِيعِ لَمْ يُفِدْ نَسَبُهُ لِعَدَمِ مَدْخَلِهِ فِيهِمَا؛ إذْ السَّبَبُ لَهُمَا إنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: ١٠١] (اُنْظُرْ إلَى ابْنِ آدَمَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (قَابِيلَ) قَاتِلِ هَابِيلَ (وَابْنِ نُوحٍ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (كَنْعَانَ) قِيلَ كَوْنُ كَنْعَانَ اسْمَ ذَلِكَ الِابْنِ قَوْلٌ مَرْدُودٌ.
وَقِيلَ إنَّهُ اسْمُ ابْنِ زَوْجَتِهِ وَفِي الْإِتْقَانِ اسْمُ ابْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute