للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالتَّهْدِيدِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ أَوْ عَلَى كُفْرَانِ نِعَمِهِ إذْ صَرْفُ الْجَوَارِحِ إلَى غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لَهُ كُفْرٌ بِالنِّعْمَةِ لَعَلَّ وَجْهَ التَّشْدِيدِ إرَادَةُ الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ اللَّفْظِ وَلَا يُرِيدُهُ بَلْ يُرِيدُ مَعْنًى مَجَازِيًّا (وَإِنْ سَمِعَ بَغْتَةً فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَمْرٌ إيجَابِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ (وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ كُلَّ الْجُهْدِ) يَعْنِي يَصْرِفُ جُهْدَهُ وَوُسْعَهُ وَطَاقَتَهُ (حَتَّى لَا يَسْمَعَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنِهِ» انْتَهَى)

[اسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ بِالِاخْتِيَارِ]

(وَمِنْهَا اسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ بِالِاخْتِيَارِ) تَذَكَّرْ مَا قُلْنَا (وَقَالَ فِي التتارخانية التَّغَنِّي وَاسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ حَرَامٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَبَالَغُوا فِيهِ) أَيْ فِي حُرْمَتِهِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ حُرْمَتَهُ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ التَّجْوِيزُ عَنْ بَعْضٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَمَا سَبَقَ قُلْنَا قَدْ أُشِيرَ أَيْضًا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْغِنَاءِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَغْنَى وَتَفْصِيلِهِ أَيْضًا فِي رِسَالَةِ عَلِيٍّ الْقَارِي مَا حَاصِلُهُ أَنَّ التَّغَنِّيَ ثَلَاثَةٌ

الْأَوَّلُ مَا لَا يَكُونُ بِآلَةٍ مَعَ سَلَامَةِ الْقَوْلِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْمَلَامَةِ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ إبَاحَتُهُ وَهُوَ مُخْتَارُ الْقُشَيْرِيِّ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الِاتِّفَاقَ وَابْنُ حَزْمٍ ادَّعَى إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيْهِ وَفِي النِّهَايَةِ أَيْضًا جَوَازُهُ وَعِنْدَ السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ لِدَفْعِ وَحْشَةٍ وَمُخْتَارُ عِزِّ الدِّينِ وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَبَدْرِ الدِّينِ وَقِيلَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ وَمُبَاحٌ فِي غَيْرِهِ وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ وَحَمَّادٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ مِنْ الْكَرَاهَةِ بَلْ عَدُوُّهُ مِنْ الذُّنُوبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَكُونُ مَقْرُونًا بِأَلْحَانِ الْفُسَّاقِ أَوْ بِالْآلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ

وَالثَّانِي مَا يَكُونُ بِآلَةٍ كَالْأَوْتَارِ وَالْمَزَامِيرِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الضَّرْبَ وَاسْتِمَاعَهُ حَرَامٌ وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إبَاحَتُهُ وَكَذَا عَنْ شِرْذِمَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَعَنْ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ عَنْ الْأَرْبَعَةِ حُرْمَتُهُ وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ فَأَشَدُّ الْمَذَاهِبِ وَقَوْلُهُ أَغْلَظُ الْأَقْوَالِ وَصَرَّحَ أَصْحَابُهُ أَنَّ اسْتِمَاعَهُ فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذَ بِهِ كُفْرٌ وَلَيْسَ بَعْدَ الْكُفْرِ غَايَةٌ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْفُسَّاقُ وَفِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ ثُمَّ قَالَ وَأَحْسَنُ الْأَقْسَامِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ أَبْيَاتًا بَدِيعَةً لِرَجُلٍ صَالِحٍ بِتَحْزِينٍ فَيَهِيجَ لَهُ بُكَاءً وَحُزْنًا عَلَى انْقِطَاعِهِ عَنْ بَابِ مَوْلَاهُ فَيَتَيَقَّظَ بِذَلِكَ مِنْ الْغَفْلَةِ فِي أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَلَوْ أَنَّهُ تَغَنَّى بِالْقُرْآنِ وَحَسَّنَ بِهِ صَوْتَهُ أَوْ سَمِعَهُ مُقْرِئٌ مَطْرُوبٌ ذُو قَلْبٍ مُنِيبٍ لَانْتَفَعَ بِهِ أَضْعَافَ مَا انْتَفَعَ بِالْأَشْعَارِ وَهَذَا سَمَاعُ الصَّحَابَةِ وَفِيهِمْ نَزَلَ - {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: ٨٣]-

الثَّالِثُ مَا يُقَارَنُ بِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ حَرَامٌ وَمُخْتَارُ النَّوَوِيِّ وَعِنْدَ بَعْضٍ مُبَاحٌ وَمُخْتَارُ جَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ كَالرَّافِعِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَعَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى مَنْعِهِ وَلَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى جَوَازِهِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ فَمَنْ اجْتَهَدَ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى التَّحْرِيمِ قَالَ بِهِ وَمَنْ اجْتَهَدَ وَأَدَّاهُ إلَى الْجَوَازِ قَالَ بِهِ انْتَهَى ثُمَّ أَقُولُ الْأَسْلَمُ أَنْ يُرَادَ مِنْ كَلَامِ التتارخانية مَعْنًى مَجَازِيٌّ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ (وَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّ) (الْمُغَنِّيَ لِلنَّاسِ) لَا لِنَفْسِهِ لِنَحْوِ الْوَحْشَةِ (لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) (لِأَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَفِي التتارخانية أَيْضًا) قِيلَ عَنْ الْمِنَحِ عَنْ الْبَحْرِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ حُرْمَةُ الْغِنَاءِ مُطْلَقًا وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ قَوْلِهِ إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ وَذَكَرَ مِنْهَا الْوَصِيَّةَ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ خُصُوصًا إذَا كَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ انْتَهَى قَالَ فَقَدْ ثَبَتَ نَصُّ الْمَذَاهِبِ عَلَى حُرْمَتِهِ فَانْقَطَعَ الِاخْتِلَافُ (وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي بَابِ السَّمَاعِ فِي زَمَانِنَا) وَإِنْ رُخِّصَ فِي زَمَانِ السَّلَفِ لِعَدَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>