مَازَحَك غَيْرُك فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَكُنْ مِنْ الَّذِينَ إذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا انْتَهَى وَقَالَ فِي الْأَذْكَارِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا فِيهِ إفْرَاطٌ وَمُدَاوَمَةٌ لِإِيرَاثِهِ الضَّحِكَ وَقَسْوَةَ الْقَلْبِ وَيَشْغَلُ عَنْ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَمُهِمَّاتِ الدِّينِ فَيُورِثُ الْحِقْدَ وَيُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ وَمَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي كَانَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ نَادِرًا لِمُصْلِحَةٍ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ (وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفْهُ) فَإِنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بَلْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ
[الْخَامِسَ عَشَرَ الْجِدَالُ]
(الْخَامِسَ عَشَرَ الْجِدَالُ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِهَا) اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ الْجَدَلِ فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ هُوَ عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ الطَّرِيقِ الَّتِي يُقْتَدَرُ بِهَا عَلَى إبْرَامِ أَيِّ وَضْعٍ أُرِيدَ وَعَلَى هَدْمِ أَيِّ وَضْعٍ كَانَ وَهُوَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ لَكِنَّهُ مِنْ فُرُوعِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْخِلَافِ وَهُوَ الْجِدَالُ الْوَاقِعُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْفَرْعِيَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الْمِفْتَاحِ ثُمَّ قَالَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَدَلِ بِالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَإِنَّ الْجَدَلَ بَحْثٌ عَنْ مَوَادِّ الْأَدِلَّةِ الْخِلَافِيَّةِ وَالْخِلَافُ بَحْثٌ عَنْ صُورَتِهَا فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَدَلِ هُوَ الْخِلَافُ بَلْ الْجَدَلُ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْمِرَاءِ فَتَأَمَّلْ (فَإِنْ قَصَدَ بِهِ تَخْجِيلَ الْخَصْمِ وَإِظْهَارَ فَضْلِهِ) لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ دَوَاعٍ شَرْعِيَّةٍ (فَحَرَامٌ بَلْ كُفْرٌ عِنْدَ الْبَعْضِ وَقَدْ مَرَّ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ) لَعَلَّ ذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ (ت عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ» أَيْ مَا ضَلَّ قَوْمٌ مَهْدِيُّونَ كَائِنِينَ عَلَى حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا بِإِيتَاءِ الْجَدَلِ أَيْ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ وَقَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ التَّعَصُّبُ لِتَرْوِيحِ الْمَذَاهِبِ الْكَاسِدَةِ وَالْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ لَا بِالْمُنَاظَرَةِ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَاسْتِكْشَافِ الْحَالِ وَاسْتِعْلَامِ مَا لَيْسَ مَعْلُومٌ أَوْ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ خَارِجٌ عَمَّا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ الْإِشَارَةُ إلَى الْخِلَافَاتِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَأُبْدِعَ فِيهَا مِنْ التَّحْرِيرَاتِ وَالتَّصْنِيفَاتِ وَالْمُجَادَلَاتِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَحُومَ حَوْلَهَا وَاجْتَنِبْهَا اجْتِنَابَ السُّمِّ الْقَاتِلِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ « (ثُمَّ تَلَا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} [الزخرف: ٥٨] مَا ضَرَبُوا هَذَا الْمَثَلَ إلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ لَا لِتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: ٥٨] » شِدَادُ الْخُصُومَةِ حِرَاصٌ عَلَى اللَّجَاجِ (وَإِنْ قَصَدَ إظْهَارَ الْحَقِّ وَهُوَ نَادِرٌ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ تَرْكِهِ لِأَنَّ النَّادِرَ كَالْمَعْدُومِ وَأَنَّ أَكْثَرَ مَدَارِ الشَّرْعِ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ لَكِنْ قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ وَلَوْ كِفَايَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا يُشِيرُ إلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ وَإِلَّا فَإِطْلَاقُ الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ مُشْكِلٌ لَعَلَّ مُرَادَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تُصَرِّحْ بِهِ عِبَارَتُهُ (فَجَائِزٌ بَلْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) فَالتَّفَاوُتُ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ وَالْوَقَائِعِ لَعَلَّ الْأَوْلَى فَمَنْدُوبٌ بَلْ وَاجِبٌ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: ١٢٥] وَعَنْ حِلْيَةِ الْأَبْرَارِ لِلنَّوَوِيِّ اعْلَمْ أَنَّ الْجَدَلَ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ وَقَدْ يَكُونُ بِبَاطِلٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: ٤٦] وَقَالَ {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: ١٢٥] وَقَالَ {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: ٤] فَإِنْ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ وَتَقْرِيرِهِ فَمَمْدُوحٌ وَإِنْ لِمُدَافَعَةِ الْحَقِّ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَذْمُومٌ وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ تَنْزِلُ النُّصُوصُ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا رَأَيْت شَيْئًا أَذْهَبَ لِلدِّينِ وَلَا أَنْقَصَ لِلْمُرُوءَةِ وَلَا أَضْيَعَ لِلَّذَّةِ وَلَا أَشْغَلَ لِلْقَلْبِ مِنْ الْخُصُومَةِ انْتَهَى ثُمَّ لَا يَخْفَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute