فَالْفَرَحُ وَالْأَمْنُ تَبْعِيدٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ أَلَا تَرَى قِصَّةَ بَلْعَامَ ابْنِ بَاعُورَا وَبَرْصِيصَا أَمَّا بَلْعَامُ فَفِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كَانَ يُوضَعُ فِي مَجْلِسِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مِحْبَرَةً لِكِتَابَةِ حِكْمَةِ لِسَانِهِ وَكَانَ إذَا نَظَرَ رَأَى الْعَرْشَ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: ١٧٥] ثُمَّ بِمَيْلِهِ إلَى الدُّنْيَا مَيْلَةً وَاحِدَةً وَتَرْكُهُ لِوَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ حُرْمَةً وَاحِدَةً سَلَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَعْرِفَتَهُ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ حَيْثُ قَالَ - {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: ١٧٦]- الْآيَةَ
وَأَمَّا بِرْصِيصَا فَعَبَدَ فِي صَوْمَعَتِهِ سَبْعِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى قِيلَ طَارَ فِي الْهَوَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ تَلَامِذَتِهِ بِقُوَّةِ هِمَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَفِي حَقِّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ} [الحشر: ١٦] الْآيَةَ وَأَيْضًا اُنْظُرْ إلَى حَالِ إبْلِيسَ حَيْثُ عَبَدَ ثَمَانِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى لَمْ يَتْرُكْ مَوْضِعَ قَدَمٍ إلَّا وَسَجَدَ لِلَّهِ فِيهِ ثُمَّ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ أَمْرٍ وَاحِدٍ لَعَنَهُ اللَّهُ أَبَدَ الْآبِدِينَ (فَلِذَا) أَيْ فَلِكَوْنِ سَبَبِيَّةِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِلْخَشْيَةِ أَوْلَى وَأَقْرَبَ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨] فَالْعِلْمُ إنَّمَا يُثْمِرُ الْخَشْيَةَ لَا الْأَمْنَ إذْ مَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ فِي مِثْلِهِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ تَزْدَادُ الْخَشْيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا أُعْرَفُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ - {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: ٢٨]- فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ قَوْله تَعَالَى - {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: ٨]- تُوجِبُ الْأَمْنَ لِلْعُلَمَاءِ إذْ بِحُكْمِ الْأُولَى نَقُولُ الْعُلَمَاءُ قَوْمٌ لَهُمْ خَشْيَةٌ وَبِحُكْمِ الثَّانِيَةِ وَكُلُّ قَوْمٍ لَهُمْ خَشْيَةٌ فَلَهُمْ الْجَنَّةُ فَيُنْتَجُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ الْعُلَمَاءُ لَهُمْ الْجَنَّةُ
قُلْنَا إنْ أُرِيدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الصُّغْرَى الْكُلُّ فَلَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ الْأُولَى عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ الْعُلَمَاءُ مَقْصُورًا عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ بَلْ الْعَكْسُ إذْ الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ فِي إنَّمَا هُوَ الْأَخِيرُ، وَإِنْ الْبَعْضَ فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ الْكُلَّ فَلَا نُسَلِّمُ التَّقْرِيبَ، وَإِنْ الْبَعْضَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجَنَّةِ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْأَمْنُ لِعَالِمٍ مَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَحْقِيقُهُ مَا سَبَقَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْخَشْيَةِ يَلْزَمُ عَدَمُ الْعِلْمِ فَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمُ صُورَةٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ خَشْيَةٌ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ حَقِيقَةً وَذَلِكَ بِحُكْمِ إفَادَةِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ الْعَلِيَّةَ فَيَتَّضِحُ بِذَلِكَ قُوَّةُ سَبَبِيَّةِ الْعِلْمِ لِلْخَشْيَةِ لَا الْفَرَحِ وَالْأَمْنِ « (وَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ} [المؤمنون: ٦٠] يُعْطُونَ {مَا آتَوْا} [المؤمنون: ٦٠] مَا أَعْطَوْا مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: ٦٠] أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ (بِاَلَّذِينَ) الْجَارِ مُتَعَلِّقٌ بِفَسَّرَ (يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) فَالتَّفْسِيرُ لِقَوْلِهِ مَا آتَوْا» كَمَا أُشِيرَ رَوَى أَحْمَدُ وَكَذَا الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا أَنَّهَا «سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ} [المؤمنون: ٦٠]- الْآيَةَ فَقَالَتْ أَهُوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي وَمَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَتَقَبَّلَ مِنْهُ» فَالْآيَةُ الْأُولَى لِأَقْرَبِيَّةِ الْعِلْمِ لِلْخَشْيَةِ وَالثَّانِيَةُ لِأَقْرَبِيَّةِ الْعَمَلِ (وَسَيَجِيءُ ضَرَرُ الْمَدْحِ فِي آفَاتِ اللِّسَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فَلَا حَاجَةَ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا فَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ أَوْ اعْتِذَارٍ عَنْ عَدَمِ التَّرْكِ.
[النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْكُفْرِ كُفْرٌ حُكْمِيٌّ]
(وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْكُفْرِ)
(كُفْرٌ حُكْمِيٌّ) مَا يَكُونُ كُفْرًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ (وَهُوَ) إمَّا قَوْلًا أَوْ فِعْلًا (مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ) اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ (أَمَارَةَ التَّكْذِيبِ) ، وَإِنْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا مَعَ وُجُودِهَا (كَاسْتِخْفَافِ) اسْتِهَانَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute