للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مُبْتَلًى أَوْ صَغِيرٍ أَوْ ضَعِيفٍ تَحْمِلُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ لَهُ وَاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ بِهِ وَالسَّعْيِ فِي كَشْفِ مَا بِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الرَّحْمَةَ فِي الْحَيَوَانِ كُلِّهِ يَعْطِفُ الْحَيَوَانُ عَلَى نَوْعِهِ وَوَلَدِهِ وَيَحِنُّ عَلَيْهِ حَالَ ضَعْفِهِ وَحِكْمَتُهَا تَصْغِيرُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي ثَمَرَتُهَا هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ حِفْظُ النَّوْعِ رَحْمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ مِائَةٍ ادَّخَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ فَمَنْ كَانَ فِيهِ الرَّحْمَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَسَيَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الدَّارِ عَلَى قَدْرِ رَحْمَتِهِ فَمَنْ سُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ بِالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَعَدَمِ اللُّطْفِ بِضَعِيفٍ وَشَفَقَةٍ بِمُبْتَلًى فَقَدْ شَقِيَ حَالًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى شِقْوَتِهِ مَآلًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى.

هَذَا ثُمَّ قِيلَ هُنَا بِنَحْوِ أَمْثَالِ الْعَرَبِ لَا تَكُنْ رَطْبًا فَتُعْصَرْ، وَلَا يَابِسًا فَتُكْسَرْ وَبِنَحْوِ حَدِيثِ «لَا تَكُنْ مُرًّا فَتُعْقَى أَيْ تُكْرَهَ، وَلَا حُلْوًا فَتُسْرَطَ» وَيَقُولُ لُقْمَانُ لِابْنِهِ لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُؤْكَلَ، وَلَا مُرًّا فَتُلْفَظَ فَفِي هَذَا كُلِّهِ نَهْيٌ عَنْ اللِّينِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا أَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَصْلُحُ إشْكَالًا عَلَى الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ «الْمُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ جَوَّادٌ سَمْحٌ لَهُ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَالْكَافِرُ فَظٌّ غَلِيظٌ لَهُ خُلُقٌ سَيِّئٌ» .

وَأَسْبَابُهَا أَيْ الْفَظَاظَةِ النَّوْمُ عَلَى الطَّعَامِ قَبْلَ انْهِضَامِهِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى اللَّحْمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ وَالتَّوَغُّلُ عَلَى الْقِيلِ وَالْقَالِ وَالتَّكَلُّمُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَالتَّوَغُّلُ عَلَى الْفِقْهِ دُونَ عِلْمِ الزُّهْدِ، وَعَلَامَتُهَا جُمُودُ الْعَيْنِ، وَعَبُوسَةُ الْوَجْهِ وَكَثْرَةُ الْمُجَادَلَةِ وَالتَّعَصُّبُ، وَلُزُومُ الظَّوَاهِرِ، وَالْعَمَلُ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ وَتَرْكُ الصَّدَقَةِ وَآفَاتُهَا السُّقُوطُ فِي نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْخِذْلَانُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَعِلَاجُهَا مَسْحُ رَأْسِ الْيَتِيمِ، وَإِكْثَارُ الصَّدَقَةِ وَمُجَالَسَةُ الْفُقَرَاءِ وَالْجُوعُ وَالذِّكْرُ، وَضِدُّهَا اللِّينُ وَرِقَّةُ الْقَلْبِ وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَالْأُلْفَةُ وَيُقَالُ الْعُنْفُ نَتِيجَةُ الْفَظَاظَةِ وَالرِّفْقُ نَتِيجَةُ اعْتِدَالِ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «يَا عَائِشَةُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ الْحَدِيثَ: إذْ بِهِ تُنَالُ الْمَطَالِبُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَبِفَوْتِهِ يَفُوتَانِ

[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْوَقَاحَةُ قِلَّةُ الْحَيَاءِ]

(السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْوَقَاحَةُ قِلَّةُ الْحَيَاءِ) . (وَضِدُّهَا الْحَيَاءُ، وَهُوَ انْحِصَارُ النَّفْسِ) احْتِبَاسُهَا (خَوْفَ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ) أَوْ خَوْفَ تَرْكِ الْجَمِيلِ أَوْ خَوْفَ لُحُوقِ الْعُيُونِ، وَعَنْ شَرْحِ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ الْحَيَاءُ انْقِبَاضٌ وَحِشْمَةٌ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَمَا يُطَّلَعُ مَا مِنْهُ عَلَى مَا يُسْتَقْبَحُ وَيُذَمُّ عَلَيْهِ، وَأَصْلُهُ غَرِيزِيٌّ فِي الْفِطْرَةِ وَمِنْهُ مُكْتَسَبٌ لِلْإِنْسَانِ كَمَا قِيلَ فِي الْعَقْلِ

رَأَيْت الْعَقْلَ عَقْلَيْنِ ... فَمَطْبُوعٌ وَمَصْنُوعٌ

وَلَا يَنْفَعْ مَصْنُوعٌ إذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعٌ ... كَمَا لَا تَنْفَعُ الْعَيْنُ

وَضَوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعٌ

أَقُولُ تَخْصِيصُ الْغَرِيزِيِّ بِالْحَيَاءِ تَحَكُّمٌ إذْ هُوَ مُشْتَرَكٌ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ كَمَا مَرَّ.

وَقَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ الْمَطْلَبُ الثَّانِي فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ قَبُولُ الْأَخْلَاقِ التَّغْيِيرَ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ التَّغْيِيرَ بَعْضُ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ وَالْبَطَالَةُ، وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِأَنْ يُجَرِّبَ ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَنَقْصِهِ.

وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْخُلُقُ الْبَاطِنُ بِمَنْزِلَةِ الْخُلُقِ الظَّاهِرِ وَإِذَا لَا يَتَغَيَّرُ هَذَا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَاكَ.

وَالثَّانِي أَنَّ الْغَضَبَ مَثَلًا مِنْ مُقْتَضَى الْمِزَاجِ وَالطَّبْعِ وَكَذَا الشَّهْوَةُ فَكَيْفَ يَتَبَدَّلَانِ،. فَنَقُولُ لَوْ لَمْ تَقْبَلْ التَّغْيِيرَ لَبَطَلَتْ الْوَصَايَا وَالْمَوَاعِظُ وَالتَّأْدِيبَاتُ، وَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَسِّنُوا أَخْلَاقَكُمْ» مَعْنًى، وَإِذَا أَمْكَنَ تَغْيِيرُ أَخْلَاقِ الْبَهَائِمِ فَالْإِنْسَانُ أَوْلَى، وَكَشْفُ الْغِطَاءِ فِيهِ أَنَّ قَمْعَ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ لَنَا بِالرِّيَاضَةِ تَعْدِيلُهُمَا وَصَرْفُهُمَا إلَى مَا خُلِقَا لِأَجْلِهِ نَعَمْ الْجِبِلَّاتُ مُخْتَلِفَةٌ بِالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ فِي التَّغْيِيرِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا قُوَّةُ الْغَرِيزَةِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَامْتِدَادِ مُدَّةِ الْوُجُودِ وَثَانِيهِمَا تَأَكُّدُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>