للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ وَرُؤْيَةِ مَرَضِيَّاتِهِ، وَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:

الْأَوَّلُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ الْعِلْمِ بِالْقُبْحِ وَالْحُسْنِ وَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ فِطْرَتُهُ فَهَذَا أَسْرَعُ الْقَبُولِ لِلْعِلَاجِ فَإِنْ صَادَفَ مُرْشِدًا يَحْسُنُ خُلُقُهُ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ.

الثَّانِي أَنْ يَعْرِفَ الْقَبِيحَ وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَمَعَ ذَلِكَ عَلِمَ تَقْصِيرَهُ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ الْأَوَّلِ إذْ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الْوَظِيفَةُ بِقَلْعِ مَا رَسَخَ فِيهِ أَوَّلًا وَبِغَرْسِ مَوَادِّ الصَّلَاحِ ثَانِيًا.

الثَّالِثُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْأَخْلَاقَ الْقَبِيحَةَ حَقًّا وَجَمِيلًا وَتَرَبَّى عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا يَكَادُ يَمْتَنِعُ مُعَالَجَتُهُ، وَلَنْ يُرْجَى صَلَاحُهُ إلَّا عَلَى النُّدْرَةِ وَذَلِكَ تَضَاعَفَ فِيهِ أَسْبَابُ الضَّلَالِ.

الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ نَشْؤُهُ عَلَى الضَّلَالِ الْفَاسِدِ وَمَعَ ذَلِكَ يَرَى الْفَضْلَ فِيهِ وَيَتَبَاهَى بِهِ، وَهَذَا هُوَ أَضْعَفُ الْمَرَاتِبِ فَالْأَوَّلُ جَاهِلٌ، وَالثَّانِي جَاهِلٌ وَضَالٌّ، وَالثَّالِثُ جَاهِلٌ وَضَالٌّ وَفَاسِقٌ، وَالرَّابِعُ جَاهِلٌ وَضَالٌّ وَفَاسِقٌ وَشِرِّيرٌ.

(ت عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ» بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَالنَّهِمَاتِ وَتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى تَصِيرَ مَدْبُوغَةً فَعِنْدَهَا تَطْهُرُ الْأَخْلَاقُ وَتُشْرِقُ أَنْوَارُ الْأَسْمَاءِ فِي صَدْرِ الْعَبْدِ فَيُقَرِّرُ عِلْمَهُ بِاَللَّهِ فَيَعِيشُ غَنِيًّا بِاَللَّهِ مَا عَاشَ.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَيْسَ حَقُّ الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ إنَّهُ يَحْفَظُ نَفْسَهُ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ عَمَّا لَا يَرْضَاهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ.

وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْحَيَاءُ حَقُّ التَّقْوَى، وَلَا يَخَافُ الْعَبْدُ حَتَّى يَسْتَحْيِيَ، وَهَلْ وَجِلَ أَهْلُ التَّقْوَى إلَّا مِنْ الْحَيَاءِ. «قُلْنَا إنَّا لَنَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ» أَيْ لَيْسَ مَا تَسْتَحْيُونَ حَيَاءً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ «، وَلَكِنْ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ» كَعَدَمِ السَّجْدَةِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ صَلَاةٍ بِرِيَاءٍ «وَمَا وَعَى» أَيْ مَا جَمَعَهُ الرَّأْسُ مِنْ اللِّسَانِ وَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ قِيلَ مِنْ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ حَتَّى لَا تَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا لَا يَحِلُّ «وَالْبَطْنَ» بِأَكْلِ الْحَلَالِ بَلْ الطَّيِّبِ مِنْهُ «وَمَا حَوَى» مَا جَمَعَهُ الْبَطْنُ مِنْ نَحْوِ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ فَإِنَّ هَذِهِ لِأَعْضَاءٍ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ أَيْ الْبَطْنِ، وَالتَّعْبِيرُ فِي الْأَوَّلِ بِمَا وَعَى، وَفِي الثَّانِي بِمَا حَوَى لِلتَّفَنُّنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُفَّ عَنْك لِسَانَك فَلَا تَنْطِقْ بِهَا إلَّا خَيْرًا، وَأَنَّهُ شَطْرُ الْإِنْسَانِ كَمَا قِيلَ

لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ

كَمَا فِي خَبَرِ «مَنْ صَمَتَ نَجَا» ، وَعَدَمُ ذِكْرِ اللِّسَانِ لِيَشْمَلَ نَحْوَ الْفَمِ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ سُدَّ سَمْعَك أَيْضًا مِنْ الْإِصْغَارِ إلَى مَا لَا يَعْنِيك وَاغْضُضْ عَيْنَيْك عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا تَمُدَّ عَيْنَيْك إلَى مَا تَمَتَّعَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ تَعَالَى مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا كَيْفَ لَا، وَهُوَ رَائِدُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ سُلْطَانُ الْجَسَدِ وَمُضْغَةٌ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. وَهُنَا نُكْتَةٌ فِي عَطْفِ مَا وَعَى عَلَى الرَّأْسِ فَحِفْظُ الرَّأْسِ مُجْمَلًا عِبَارَةٌ عَنْ التَّنَزُّهِ عَنْ الشِّرْكِ فَلَا يَضَعُ رَأْسَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ سَاجِدًا وَلَا يَرْفَعُهُ تَكَبُّرًا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَعَلَ الْبَطْنَ قُطْبًا يَدُورُ عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مِنْ نَحْوِ الْقَلْبِ وَالْفَرْجِ، وَفِي عَطْفِ مَا حَوَى عَلَى الْبَطْنِ إشَارَةٌ إلَى حِفْظِهِ مِنْ الْحَرَامِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ أَنْ يُمْلَأَ مِنْ الْمُبَاحِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ «وَتَذْكُرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى» يَعْنِي، وَلْيَذْكُرْ صَيْرُورَتَهُ فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بَالِيَةً؛ لِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ عِظَامَهُ تَصِيرُ بَالِيَةً، وَأَعْضَاءَهُ مُتَمَزِّقَةً هَانَ عَلَيْهِ مَا فَاتَهُ مِنْ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ، وَأَهَمَّهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ طَلَبِ الْآجِلَةِ، وَعَمِلَ عَلَى إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَمَنْ أَرَادَ» سَعَادَةَ «الْآخِرَةَ» ، وَفَوْزَهُ بِنَعِيمِهَا «تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا وَآثَرَ الْآخِرَةَ عَلَى الْأُولَى» ؛ لِأَنَّهُمَا ضَرَّتَانِ مَتَى أَرْضَيْت إحْدَاهُمَا أَسْخَطْت الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ خُلِقَتْ لِحُظُوظِ الْأَرْوَاحِ وَالدُّنْيَا لِلْمُيُولَاتِ الْهَوَائِيَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ فَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَتَشَبَّثَ بِالدُّنْيَا كَانَ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ مَلِكٍ دَعَاهُ لِضِيَافَتِهِ، وَعَلَى عَاتِقِهِ جِيفَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ حَيَاؤُهُ مِنْ الْمَلِكِ فَكَذَا مُرِيدُ الْآخِرَةِ مَعَ تَمَسُّكِهِ بِالدُّنْيَا فَمَنْ أَرَادَ اللَّهَ فَلْيَرْفُضْ جَمِيعَ مَا سِوَاهُ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَرَى إلَّا إيَّاهُ «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ» كُلَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>