للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ» عَنْ الطِّيبِيِّ فَمَنْ أَهْمَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَةِ الِاسْتِحْيَاءِ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جِبِلَّةَ الْإِنْسَانِ مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ مَعْدِنُ الْعَيْبِ، وَمَكَانُ الْمُحَارَبَةِ فَرَأْسُ حَقِّ الْحَيَاءِ تَرْكُ الْمَرْءِ مَا لَا يَعْنِيهِ وَشُغْلُهُ بِمَا يَعْنِيهِ عَلَيْهِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْرَثَهُ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُوَ مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ الْمُوصِلُ إلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَالْمَرِيضُ أَوْلَى. وَقِيلَ حَقُّ الْحَيَاءِ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَتَحَمُّلُ الْمَكَارِهِ وَالْمَشَاقِّ، وَإِيثَارُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَوَى نَفْسِهِ، وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ لَيْلًا، وَأَخَذَ بِيَدِ امْرَأَةٍ وَدَعَاهَا إلَى الْفُجُورِ وَخَلَا بِهَا فِي مَوْضِعٍ فَقَالَتْ أَفَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ الَّذِي خَلَقَنَا وَيَطَّلِعُ عَلَيْنَا فَتَرَكَهَا وَتَابَ فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ غُفِرَ لِي بِتَرْكِي ذَنْبًا وَاحِدًا مَخَافَةً مِنْهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: ٤٠] الْآيَةَ ثُمَّ إنَّهُ، وَإِنْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَكِنْ عَنْ الْمِيزَانِ أَنَّهُ وَاهٍ، وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ غَرِيبٌ وَبَعْضٌ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.

(ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الْحَيَاءُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ هُوَ غَرِيزِيٌّ أَصْلًا وَاكْتِسَابِيٌّ كَمَالًا، وَقَدْ عَرَفْت كَرَّتَيْنِ «مِنْ الْإِيمَانِ» لِمَنْعِهِ مِنْ الْفَوَاحِشِ، وَإِقْدَامِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالْخَيْرِ عَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ جُعِلَ كَالْبَعْضِ مِنْهُ لِمُنَاسَبَتِهِ لَهُ فِي مَنْعِ الْمَعَاصِي. «وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ» أَيْ يُوصِلُهُ إلَيْهَا «وَالْبَذَاءُ» بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَمَدٍّ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ «مِنْ الْجَفَاءِ» بِالْمَدِّ أَيْ الطَّرْدِ وَالْإِعْرَاضِ وَتَرْكِ الصِّلَةِ وَالْبِرِّ «وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي خَبَرٍ آخَرَ «، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» .

(تَنْبِيهٌ)

سُئِلَ بَعْضُهُمْ هَلْ كَوْنُ الْحَيَاءِ مِنْ الْإِيمَانِ مُقَيَّدٌ أَوْ مُطْلَقٌ؟ . فَقَالَ مُقَيَّدٌ بِتَرْكِ الْحَيَاءِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا، وَإِلَّا فَعَدَمُهُ مَطْلُوبٌ فِي النُّصْحِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَرْكُهُ فِيهَا مِنْ النُّعُوتِ الْإِلَهِيَّةِ {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً} [البقرة: ٢٦] ، {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: ٥٣] وَأَنْشَدُوا

إنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ جَاءَ بِهِ ... لَفْظُ النَّبِيِّ وَخَيْرٌ كُلُّهُ انْتَبِهْ

إنَّ الْحَيَاءَ لَمِنْ أَسْمَاءِ الْإِلَهِ وَقَدْ ... جَاءَ التَّخَلُّقُ بِالْأَسْمَاءِ فَاحْفَظْ بِهِ

وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «الْحَيَاءُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ» قِيلَ فِي شَرْحِهِ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَهُ وَمُنْتَهَاهُ يُفْضِيَانِ إلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ خَيْرٌ لَا مَحَالَةَ فَكَأَنَّهُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ؛ وَلِأَنَّ مَنْ اسْتَحْيَا مِنْ الْخَلْقِ قَلَّ شَرُّهُ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ السَّخَاءُ وَالسَّمَاحُ الْمُوصِلَانِ إلَى دِيَارِ الْأَفْرَاحِ.

وَفِيهِ أَيْضًا الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ مَقْرُونَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا جَمِيعًا قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ رَائِحَةُ التَّجْرِيدِ حَيْثُ جَرَّدَ مِنْ الْإِيمَانِ شُعْبَةً مِنْهُ وَجَعَلَهَا قَرِينًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ كَأَنَّهُمَا رَضِيعَا لِبَانِ ثَدْيٍ أَيْ تَقَاسَمَا أَنْ لَا يَفْتَرِقَا. وَفِيهِ أَيْضًا الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا فَإِذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>