للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ قِيلَ عَنْ الرَّاغِبِ الْحَيَاءُ انْقِبَاضُ النَّفْسِ عَنْ الْقَبَائِحِ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ خَيْرٍ وَعِفَّةٍ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُسْتَحْيِي فَاسِقًا، وَلَا الْفَاسِقُ مُسْتَحِيًا لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْعِفَّةِ وَالْفِسْقِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ الشُّجَاعُ مُسْتَحِيًا لِتَنَافِي الشَّجَاعَةِ مَعَ الْجُبْنِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» وَفِي آخَرَ «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ» ؛ لِأَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ النَّاسِ يُفْضِي إلَى الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.

فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَكُونُ الْحَيَاءُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالْإِمَامَةِ وَالْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ وَتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ، وَأَدَاءِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ قُلْنَا هَذَا لَيْسَ بِحَيَاءٍ حَقِيقَةً، وَإِنْ اصْطَلَحَهُ النَّاسُ بَلْ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ وَخَوْرٌ إذْ كَمَا عَرَفْت أَنَّهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ وَيَمْنَعُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ كَسَا الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ» أَيْ سُكُوتُ اللِّسَانِ تَحَرُّزًا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْبُهْتَانِ «شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ» فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ فَيَتْرُكُ الْقَبَائِحَ وَيَمْنَعُ الِاجْتِرَاءَ عَلَى الْكَلَامِ خَوْفًا مِنْ عَثْرِ اللِّسَانِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْبُهْتَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرْنٍ - أَيْ هُمَا فِي حَبْلٍ - فَإِذَا أُسْلِبَ أَحَدُهُمَا تَبِعَهُ الْآخَرُ» وَالْمُرَادُ هُوَ الْحَيَاءُ الشَّرْعِيُّ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ فَمَذْمُومٌ جِدًّا كَمَا عَرَفْت، وَفِي آخَرَ أَيْضًا «الْحَيَاءُ زِينَةٌ» ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الرُّوحِ وَالرُّوحُ سَمَاوِيٌّ، وَعَمَلُ أَهْلِ السَّمَاءِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالنَّفْسُ شَهْوَانِي أَرْضِيٌّ مَيَّالٌ إلَى شَهْوَةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا لَا يَهْدَأُ، وَلَا يَسْتَقِرُّ فَأَعْمَالُنَا مُخْتَلِفَةٌ فَمَرَّةً عُبُودِيَّةٌ وَمَرَّةً رُبُوبِيَّةٌ وَمَرَّةً عَجْزٌ وَمَرَّةً اقْتِدَارٌ فَإِذَا رِيضَتْ وَذُلِّلَتْ وَأُدِّبَتْ، وَكَانَ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ لِلرُّوحِ جَاءَ الْحَيَاءُ، وَهُوَ خَجِلُ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَصْلُحُ فِي السَّمَاءِ، وَذَلِكَ يُزَيِّنُ الْجَوَارِحَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ.

وَمِنْهُ الْوَقَارُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ فِي النِّسَاءِ وَوَاحِدَةٌ فِي الرِّجَالِ» كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ فَيْضِ الْقَدِيرِ. (ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا كَانَ الْفُحْشُ» مِثْلُ قُبْحٍ وَزْنًا، وَالْمَعْنَى: كُلُّ شَيْءٍ جَاوَزَ الْحَدَّ فَهُوَ فَاحِشٌ وَالْقَوْلُ السَّيِّئُ. «فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» مِنْ الشَّيْنِ أَيْ الْعَيْبِ «وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ» مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ «إلَّا زَانَهُ» مِنْ الزِّينَةِ عَنْ الطِّيبِيِّ أَيْ لَوْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ الْفُحْشُ أَوْ الْحَيَاءُ فِي جَمَادٍ لَشَانَهُ أَوْ زَانَهُ فَكَيْفَ بِالْإِنْسَانِ، وَأَشَارَ بِهَذَيْنِ إلَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ الرَّذِيلَةَ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ بَلْ هِيَ الشَّرُّ كُلُّهُ وَالْحَسَنَةُ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ بَلْ هِيَ الْخَيْرُ كُلُّهُ (، وَأَفْضَلُ الْحَيَاءِ الْحَيَاءُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (ثُمَّ) الْحَيَاءُ (مِنْ النَّاسِ فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ. وَأَمَّا مَا فِيهِ إحْدَاهُمَا كَالْحَيَاءِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَرْكِ السُّنَنِ كَالسِّوَاكِ)

لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَكَذَا عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنْ قِيلَ بِعَدَمِ سُنِّيَّتِهِ عِنْدَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا حَقَّقْنَا فِي رِسَالَةٍ (وَالطَّيْلَسَانُ) هُوَ ثَوْبٌ يُجْعَلُ فَوْقَ الْعِمَامَةِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ هُوَ ثَوْبٌ طَوِيلٌ عَرِيضٌ قَرِيبٌ مِنْ الرِّدَاءِ مُرَبَّعٌ يُجْعَلُ فَوْقَ الْعِمَامَةِ إلَخْ ثُمَّ قَالَ هُوَ مَنْدُوبٌ اتِّفَاقًا وَيَتَأَكَّدُ لِصَلَاةٍ وَجُمُعَةٍ، وَعِيدٍ وَمَجْمَعٍ وَيُقَالُ لَهُ الْقِنَاعُ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ لِلتَّطَيْلُسِ التَّقَنُّعُ، وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ التَّقَنُّعُ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي خَبَرٍ «لَا يُقَنَّعُ إلَّا مَنْ اسْتَكْمَلَ الْحِكْمَةَ» فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَلِلطَّيْلَسَانِ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ كَصَلَاحِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَاسْتِحْيَاءِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ إذْ شَأْنُ الْخَائِفِ الْآبِقِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَكَجَمْعِهِ الْكُفْرَ؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّي أَكْثَرَ الْوَجْهِ فَيَجْمَعُ هِمَّتَهُ وَيُحْضِرُ قَلْبَهُ مَعَ رَبِّهِ وَيَمْتَلِئُ بِشُهُودِهِ وَذِكْرِهِ وَتُصَانُ جَوَارِحُهُ عَنْ الْمُخَالَفَاتِ وَنَفْسُهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ، وَهَذِهِ أَسْبَابٌ لِإِفَاضَةِ أَنْوَاعِ الْجَلَالَةِ وَالْمَهَابَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضٌ: الطَّيْلَسَانُ الْخَلْوَةُ الصُّغْرَى. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ التَّقَنُّعُ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ بِطَرَفِ الْعِمَامَةِ وَبِرِدَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِيَقِيَ نَحْوَ الْعِمَامَةِ مِمَّا بِهِ مِنْ الدُّهْنِ وَصَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَتَى بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ لِلْهِجْرَةِ مُتَقَنِّعًا بِثَوْبِهِ» ثُمَّ قَالَ أَنْكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ الطَّيْلَسَانَ لِعَدَمِ النَّقْلِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا عَنْ صَحَابَتِهِ بَلْ هُوَ فِعْلُ الدَّجَّالِ وَلِإِنْكَارِ أَنَسٍ؛ وَلِكَرَاهَةِ جَمْعٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلِضَرُورَةِ الِاخْتِفَاءِ بِلَا عَادَةٍ، وَكَذَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ يُكْثِرُ التَّقَنُّعَ ثُمَّ أَجَابَ الْهَيْتَمِيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَلْبَسْهُ يَرُدُّهُ خَبَرُ «كَانَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ» . وَقَوْلُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>