{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: ٤٠] وَلَمَّا بَيَّنَ مَذْمُومِيَّةَ الْوَسْوَسَةِ فِي الشَّرْعِ وَآفَاتِهَا
[النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي عِلَاجِ الْوَسْوَسَةِ]
وَلَزِمَ بَيَانُ عِلَاجِهَا لِيُمْكِنَ الِاحْتِرَازُ لِلسَّالِكِ وَيَتَحَقَّقَ فِيهِ التَّقْوَى وَيَحْصُلَ لَهُ الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا وَضَعَ لِذَلِكَ نَوْعًا ثَالِثًا فَقَالَ.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي عِلَاجِ الْوَسْوَسَةِ) فِي نَفْسِ السَّالِكِ (وَطَرِيقُ التَّوَقِّي عَنْهَا) قِيلَ: وَيُسَمَّى هَذَا حِفْظَ الصِّحَّةِ (لِمَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْهَا) وَالْخَوْفُ عَلَيْهِ إمَّا (بِالِاسْتِعْدَادِ الطَّبِيعِيِّ) مِنْهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي طَبْعِهِ اسْتِقَامَةٌ بَلْ زَيْغٌ وَانْحِرَافٌ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْجِبِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ (وَبِمُقَارَنَةِ أَصْحَابِ الْوَسْوَسَةِ وَتَوَهُّمِهَا خَيْرًا وَوَرَعًا وَتَقْوَى) فَإِنَّ فِيهَا تَأْثِيرًا قَوِيًّا كَمَا سَبَقَ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اُنْظُرْ مَنْ تُخَالِلُ» .
وَقِيلَ وَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي (اعْلَمْ أَنَّ عِلَاجَهَا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْ تَعْرِفَ الْآفَاتِ) السَّبْعَ (السَّابِقَةَ وَتُكَرِّرُ مُلَاحَظَتَهَا) وَهِيَ التَّكَبُّرُ وَسُوءُ الظَّنِّ وَالتَّأْدِيَةُ إلَى مَكْرُوهٍ وَالْإِفْضَاءُ إلَى تَأْخِيرِ مَا يَجِبُ أَوْ إلَى تَرْكِهِ وَإِسْرَافُ الْمَاءِ وَتَرْكُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَضُحْكَةُ الشَّيْطَانِ وَمَسْخَرِيَّتُهُ وَاسْتُشْهِدَ عَلَى أَنَّ لِلْعِلْمِ أَثَرًا فِي عِلَاجِهَا فَقَالَ (قش عَنْ عَطَاءِ الرُّوذَبَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ كَانَ فِي) بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ (اسْتِقْصَاءٌ) طَلَبُ الْقُصْوَى الظَّاهِرُ كِنَايَةٌ عَنْ زِيَادَةِ قَدْرِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَقُصْوَى الشَّيْءِ كَمَالُهُ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالسُّنَّةِ (فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْت مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي) مِنْ الْمُضَايَقَةِ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ تِلْكَ الْقُصْوَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ عَدَمِ السُّكُونِ لِلتَّحَيُّرِ وَالْإِضْرَابِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقُصْوَى لِلْوَسْوَسَةِ وَعَلَى الْإِحْجَامِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ (فَقُلْت يَا رَبِّ عَفْوَك عَفْوَك) أَيْ أَسْأَلُ عَفْوَك وَالتَّكْرِيرُ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَضَرُّعٍ وَأَنَّهُ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ فِي عَمَلِي عَلَى مُوجِبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ كَثْرَةِ الصَّبِّ عَلَى قَدْرِ السُّنَّةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ؛ إذْ اسْتِغْفَارُهُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبِّ يُقْتَضَى كَوْنَهُ إسَاءَةً بَلْ مَعْصِيَةً (فَسَمِعْت هَاتِفًا) صَوْتًا مِنْ الْغَيْبِ (يَقُولُ: الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ) يَعْنِي: الْعَفْوُ دَائِرٌ عَلَى عِلْمِ كَوْنِ الِاسْتِقْصَاءِ وَسْوَسَةً أَوْ إنْ عَلِمْت كَوْنَهُ وَسْوَسَةً فَاَللَّهُ يَعْفُو عَنْك فَعَلِمْت أَنَّ هَذِهِ وَسْوَسَةٌ (فَزَالَ عَنِّي ذَلِكَ) الِاسْتِقْصَاءُ وَالضِّيقُ وَحَصَلَ لِي السُّكُونُ وَانْدَفَعَ عَنْ قَلْبِي الْوَسْوَسَةُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَهُ الْأَخْذُ مِنْ الْهَاتِفِ، وَذَا لَيْسَ مِنْ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ أَصْلًا غَايَتُهُ الْإِلْهَامُ، وَالْإِلْهَامُ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ كَمَا سَبَقَ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ ابْتِدَاءً بَلْ فِي تَأْيِيدِ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فَافْهَمْ (وَأَنْ تَعْرِفَ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَأَنْ تَعْرِفَ (أَنَّ الِاحْتِيَاطَ وَالْوَرَعَ وَالتَّقْوَى بَلْ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ) إنَّمَا هُوَ (فِي الِاقْتِدَاءِ) فِيمَا لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّهِ أَوْ بِطَرِيقِ ذِلَّةٍ كَمَا سَبَقَ (بِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذْ مَا يُقْتَدَى بِهِ إمَّا سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ فَرْضٌ أَوْ مُبَاحٌ كَمَا فِي الْأُصُولِ (وَأَصْحَابِهِ وَالْمُجْتَهِدِينَ) وَقِيلَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ النَّبِيِّ، وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ لَكِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّهُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ يُرَجَّحُ جَانِبُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا مَرَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute