للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا تَكْذِبُوا فِي شَيْءٍ إلَّا عِنْدَ تَرَجُّحِ مَصْلَحَةٍ أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصِّدْقِ كَحِفْظِ مَعْصُومٍ «وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ» فَإِنَّ الْعِدَةَ دِينٌ وَوَعْدُ الْكَرِيمِ دَيْنُ الْغَرِيمِ «وَأَدُّوا» الْأَمَانَاتِ «إذَا ائْتُمِنْتُمْ» {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨] قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَدَخَلَ فِيهِ مَا تَقَلَّدَ الْمُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ نَفْسِهِ وَزَوْجِهِ وَأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ وَأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ نُصْحِهِ وَحَقِّ مَمْلُوكِهِ أَوْ مَالِكِهِ أَوْ مُوَالِيهِ فَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاجِبٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا الرَّعَايَا لِلْمُلُوكِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ لِلْقَضَاءِ وَالْعُلُومُ لِلْعُلَمَاءِ وَحِفْظُ الْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ تَلَامِيذُ الْمَشَايِخِ عَنْهُمْ «وَاحْفَظُوا» أَيُّهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ «فُرُوجَكُمْ» عَنْ الْفُحْشِ «وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ» عَمَّا لَا يَجُوزُ نَظَرُهُ «وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» عَنْ أَخْذِ مَالِ الْغَيْر ظُلْمًا وَضَرْبِهِ وَلَمْسِ الْمُحَرَّمِ

[السَّادِسُ الْغِيبَةُ]

(السَّادِسُ) مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ (الْغِيبَةُ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ (وَهِيَ ذِكْرُ مَسَاوِئِ) جَمْعُ سُوءٍ (أَخِيك الْمُعَيَّنِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ) فَإِنْ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ الْمَعْلُومِ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِغِيبَةٍ (أَوْ مُحَاكَاتُهَا) أَيْ الْمَسَاوِئِ كَأَنْ يَمْشِيَ مُتَعَارِجًا حِكَايَةً لِفِعْلِ أَعْرَجَ (وَتَفْهِيمُهَا) لِلْمُخَاطِبِ (بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْجَوَارِحِ) فَالتَّعْرِيضُ كَالتَّصْرِيحِ وَالْفِعْلُ كَالْقَوْلِ بَلْ هُمَا أَشَدُّ أَنْوَاعِهَا لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ فِي التَّصْوِيرِ وَالتَّفْهِيمِ.

قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأْتُ بِيَدِي إلَى أَنَّهَا قَصِيرَةٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ اغْتَبْتِيهَا» (عَلَى وَجْهِ السَّبِّ وَالْبُغْضِ) أَيْ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِفْهَامِ وَبِالْجُمْلَةِ الْغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاك بِمَا يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ سَوَاءٌ ذَكَرْت نُقْصَانًا فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي نَسَبِهِ أَوْ فِي خُلُقِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ أَوْ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ حَتَّى فِي ثَوْبِهِ وَدَارِهِ وَدَابَّتِهِ ثُمَّ لَا نَقْصُرُ عَلَى اللِّسَانِ بَلْ التَّعْرِيضُ فِيهِ كَالتَّصْرِيحِ وَالْفِعْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ وَالْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ وَالرَّمْزُ وَالْغَمْزُ وَالْحَرَكَةُ وَالْكِتَابَةُ وَكُلُّ مَا يُفْهِمُ الْمَقْصُودُ وَمِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْمُصَنَّفِينَ شَخْصًا مُعَيَّنًا وَتَهْجِينُ كَلَامِهِ إلَّا لِعُذْرٍ مُحْوِجٍ وَمِنْ أَخْبَثِ أَنْوَاعِهَا قَوْلُ الْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَبْتَلِنَا بِالدُّخُولِ عَلَى السُّلْطَانِ وَالتَّبَذُّلِ فِي طَلَبِ الْحُطَامِ عِنْدَ ذِكْرِ شَخْصٍ حَالُهُ كَذَلِكَ أَوْ يَقُولُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ ذَمًّا لِلْغَيْرِ مَعَ الرِّيَاءِ وَكَذَا يَقُولُ مَا أَحْسَنَ فُلَانًا لَوْلَا تَقْصِيرُهُ فِي الْعِبَادَاتِ لَكِنَّهُ اُبْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِينَا فَيَذُمُّ غَيْرَهُ وَيَمْدَحُ نَفْسَهُ بِالتَّشْبِيهِ بِالصَّالِحِينَ فِي ذَمِّ أَنْفُسِهِمْ فَيَغْتَابُ وَيُرَائِي وَيُزَكِّي نَفْسَهُ (وَهُوَ حَرَامٌ قَطْعِيٌّ) فِي الْفَيْضِ عَنْ الْأَذْكَارِ الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ مُحَرَّمَتَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: ١٢] لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْحُرْمَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ أَلْفَاظِهِ مُفَسَّرَةً أَوْ مُحْكَمَةً عِنْدَ بَعْضٍ وَيَكْفِي كَوْنُهَا ظَاهِرَةً أَوْ نَصُّهُ

وَأَيْضًا أَنَّ دَلَالَةَ مِثْلِ هَذَا النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَهْيٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَوْ الْحِسِّيَّاتِ أَوْ لِقُبْحٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ أَوْ لِمُجَاوِرِهِ كَمَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ مُتَأَمِّلًا {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: ١٢] تَمْثِيلٌ لِمَا يَنَالُهُ الْمُغْتَابُ مِنْ عِرْضِ الْمُغْتَابِ عَلَى أَفْحَشِ وَجْهٍ مَعَ مُبَالَغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَرِّرِ وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى أَحَدٍ لِلتَّعْمِيمِ وَتَعْلِيقُ الْمَحَبَّةِ بِمَا هُوَ غَايَةُ الْكَرَاهَةِ وَتَمْثِيلُ الِاغْتِيَابِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ وَجَعْلُ الْمَأْكُولِ أَخًا مَيِّتًا وَتَعْقِيبُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: ١٢] تَحْقِيقٌ وَتَقْرِيرٌ لِذَلِكَ وَالْمَعْنَى إنْ صَحَّ ذَلِكَ أَوْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ هَذَا فَكَرِهْتُمُوهُ وَلَا يُمْكِنُكُمْ إنْكَارُ كَرَاهِيَتِهِ وَانْتِصَابُ مَيِّتًا عَلَى الْحَالِ مِنْ اللَّحْمِ أَوْ الْأَخِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: ١٢] لِمَنْ اتَّقَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَتَابَ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِأَنَّهُ بَلِيغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ بِهِ إذْ يَجْعَلُ صَاحِبَهَا كَمَنْ لَمْ يُذْنِبْ أَوْ لِكَثْرَةِ الْمَتُوبِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ كَذَا فِي الْقَاضِي

<<  <  ج: ص:  >  >>