للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ بِالْإِحْسَانِ لَا يُثَابُ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: ٦٠] أَوْ مَنْ لَا يَكُونُ فِيهِ رَحْمَةُ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا لَا يُرْحَمُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ مَنْ لَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَتَجَنُّبِ النَّهْيِ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ عَهْدٌ.

فَالرَّحْمَةُ الْأُولَى بِمَعْنَى الْأَعْمَالِ وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَلَا يُثَابُ إلَّا مَنْ عَمِلَ صَالِحًا أَوْ الْأُولَى الصَّدَقَةُ وَالثَّانِيَةُ الْبَلَاءُ أَيْ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْبَلَاءِ إلَّا مَنْ تَصَدَّقَ، وَهُوَ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْخَبَرِ وَبِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ أَوْ شَرْطِيَّةٌ وَرُفِعَ الْأَوَّلُ وَجُزِمَ الثَّانِي، وَعَكْسُهُ، وَأَفَادَ الْحَثَّ عَلَى رَحْمَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَحُرٍّ، وَقِنٍّ وَبَهِيمَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَدَخَلَ فِي الرَّحْمَةِ التَّعَهُّدُ بِنَحْوِ إطْعَامٍ وَتَخْفِيفِ حَمْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَسَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبَّلَ الْحُسَيْنَ، وَقَالَ الْأَقْرَعُ لِي عَشَرَةٌ مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا فَنَظَرَ إلَيْهِ» فَذَكَرَهُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: هَذَا حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ ثُمَّ مَعْنَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى هُوَ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ مَنْ رَقَّ لَهُ الْقَلْبُ فَقَدْ عَرَضَ لَهُ الْإِنْعَامُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَنْ «لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ» فَهَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعَانِي السَّابِقَةِ غَيْرُ ذَلِكَ كَالْمُمْتَنِعِ إرَادَتُهُ، وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ وَمَنْ لَا يَغْفِرُ لَا يُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ» ، وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثِ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «ارْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ» وَفِي رِوَايَةٍ «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» ، وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثِ «إنَّ الْعَبْدَ لَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَطُولُ وُقُوفُهُ حَتَّى يُصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ كَرْبٌ شَدِيدٌ فَيَقُولُ يَا رَبِّ ارْحَمْنِي الْيَوْمَ فَيَقُولُ لَهُ هَلْ رَحِمْت شَيْئًا مِنْ خَلْقِي مِنْ أَجْلِي فَأَرْحَمُك» قِيلَ، وَفِيهِ نَدْبٌ إلَى الْعَطْفِ إلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَأَهَمُّهَا الْآدَمِيُّ مُطْلَقًا قِيلَ وَرُئِيَ الْغَزَالِيُّ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك فَقَالَ أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ بِمَ جِئْتنِي فَذَكَرْت أَنْوَاعًا مِنْ الطَّاعَاتِ فَقَالَ مَا قَبِلْت مِنْهَا شَيْئًا لَكِنْ جَلَسْت تَكْتُبُ فَوَقَفَتْ ذُبَابَةٌ عَلَى الْقَلَمِ فَتَرَكْتهَا تَشْرَبَ مِنْ الْحِبْرِ رَحْمَةً لَهَا فَكَمَا رَحِمْتَ رَحِمْتُك اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْت لَك.

(ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت أَبَا الْقَاسِمِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) هَذَا مِنْ كُنْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي التتارخانية: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَنَّى بِكُنْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا رُوِيَ «سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي» فَقِيلَ إنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سَمَّى ابْنًا لَهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّاهُ بِأَبِي الْقَاسِم بِإِذْنٍ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي وَلَدْت غُلَامًا فَسَمَّيْته مُحَمَّدًا وَكَنَّيْته أَبَا الْقَاسِمِ وَذَكَرْت أَنَّك تَكْرَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي» ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ سَمَّى بِاسْمِ رَسُولِ اللَّهِ كُرِهَ أَنْ يُكَنَّى بِكُنْيَتِهِ ثُمَّ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يُكَنَّى بِأَوَّلِ وَلَدِهِ يُقَالُ أَبُو فُلَانٍ وَأُمُّ فُلَانٍ، وَلَا يُكَنَّى بِلَا وَلَدٍ.

وَأَمَّا لَوْ كَنَّى بِمِثْلِ أَبِي بَكْرٍ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَقِيلَ يُكْرَهُ لِكَذِبِهِ وَالْأَصَحُّ لَا لِلتَّفَاؤُلِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. (يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ» ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْخَلْقِ رِقَّةُ الْقَلْبِ وَرِقَّتُهُ عَلَامَةُ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَا رِقَّةَ لَهُ لَا إيمَانَ لَهُ وَمَنْ لَا إيمَانَ لَهُ شَقِيٌّ فَمَنْ لَا يُرْزَقُ الرَّحْمَةَ فَشَقِيٌّ فَعُلِمَ أَنَّ غِلْظَةَ الْقَلْبِ مِنْ عَلَامَةِ الشَّقَاوَةِ وَعَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: حَقِيقَةُ الرَّحْمَةِ إرَادَةُ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا ذَهَبَتْ إرَادَتُهَا مِنْ قَلْبٍ فَلَزِمَ إرَادَةُ مَكْرُوهٍ لِغَيْرِهِ فَشَقِيٌّ وَذَهَبَ عَنْهُ الْإِيمَانُ كَمَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ كَذَلِكَ يَلْزَمُ سَلَامَتُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَعَقِيدَتِهِ وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ الرَّحْمَةُ رِقَّةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>